لقد شق “اتفاق أوسلو” الخارطة السياسية الفلسطينية عموديا. وجاءت “انتخابات التشريعي” 1996 التي قاطعها الذين ناهضوا “أوسلو” تأكيداً. لكن قوات السلطة راهنت في السنوات اللاحقة على اجتذاب فصائل م.ت.ف مستفيدة من تأثير “المبلغ الشهري” ومرونة بعض “الرموز”. وتعزز هذا الرهان بمشاركة هذه الفصائل بما في ذلك حركة حماس في انتخابات2006، كون “التشريعي” أهم مركب من مركبات “مبادئ أوسلو” التي نصت على “إقامة مجلس إداري للحكم الذاتي المحدود”.
غير أن فوز “حماس” بثلثي “التشريعي” ونظرتها لاستخدام هذا المجلس دون الوفاء باستحقاقات “أوسلو” السياسية والأمنية،وما تبع ذلك من تشديد للحصار على السلطة وقنوات تمويلها، وعدم تماثل “الشعبية” و”الديموقراطية” و”الجهاد” وسواها مع اشتراطات “أوسلو” أضعف هذا الرهان، ولم ينجح عبق السلطة وامتيازاتها في تطويع المناهضين، بل واشتد التنازع الداخلي الذي أفضى إلى اراقة الدماء 2007 وصولاً إلى انقسام السلطة إلى سلطتين وجغرافيتين. وبذلك هدمت مقولتين كبيرتين (اجتناب الاحتكام للسلاح في جل التناقضات اداخلية + التشبث بالوحدة الميدانية في حالة الانقسام السياسي) وعادت المسيرة الفلسطينية عقدين للوراء إلى اقتتال فتح-فتح وما توالد عنه 1983 وتجاهل ارث الوحدة الميدانية دفاعاً عن المخيمات والبندقية 1983-1985.
واستبشر الكثيرون “بوثيقة الأسرى” و”اتفاق مكة” ووثيقة 2011 واتفاق الشاطئ… ولكن ذلك كله لم يكسر الجفوة ولم يجسر التناقض بين فتح وحماس، وهما الفصيلان الكبيران… حيث تشير الاستطلاعات أن حجم كل منهما لا يقل عن 30%، لفتح تمايز في غزة ولحماس تمايز في الضفة، بينما في انتخابات “التشريعي” 2006 حصلت القائمة النسبية لحماس على 44% وفتح 42% فيما لم تتجاوز نسبة التصويت 58% دون نسيان استطلاعات الأعوام الأخيرة التي تتحدث عن نسبة تتراوح بين 40-50% لا تؤيد كافة الفصائل. ومثل هذه النسبة رخوه وهي تتقلص راديكاليا في لحظات الاشتباك مع المحتل أو حدوث تمفصلات تشي بإمكانية توحيد الصفوف.
فالشعب وحدوي والحس العفوي وطني، وهما يلتفان دون تحفظ على اية خطوات وحدوية من شأنها أن تولد أملاً… بل وزاد اقتناع الناس أن أي فصيل بمفرده، مهما كان، لا يشكل طريق خلاص للشعب وغير قادر على حماية القضية الفلسطينية، ناهيكم أن “رمزية” القيادات تراجعت في العقدين الأخيرين، وبات من السهولة بمكان التطاول عليها من باب الشئم وفشة الخلق أكثر منه تحليل سياسي وتقديم حلول…
وفيما أشار استطلاع 1988 أن 97% يؤيدون م.ت.ف تقهقرت هذه النسبة جذرياً اليوم، دون أن ننسى استعداد 70% من الشباب للهجرة كما أشار غير استطلاع.
وهذا كله في غاية الخطورة، ويمكن أن يكون مقدمة للفضوى.
وكدارس للعلوم السياسية، الفوضى هي: غياب سلطة الدولة وسلطة القانون، بما يجعل السلطة عاجزة عن إدارة المجتمع والوفاء بمتطلباته الحيوية..
صحيح أن الشعب الفلسطيني لم يتمتع باستقلال في دولة منذ زمن، وهو موزع على تجمعات تعمل في أسواق متعددة ومعظمه يعمل في وسائل انتاج غير فلسطينية، ومشتت في غير بلد وبلد، وتتباين خصوصياته، ولكن لهذه الأسباب وسواهاهو في مسيس الحاجة لقيادة تنظم صفوفه وترعى شؤونه وتكون عنوانا ومرجعية له. وم.ت.ف على علاتها أدت هذا الدور وكانت راية نهوضه الوطني ما قبل مرحلة أوسلو.
أما الايغال في الفئوية السياسية والمصالح النخبوية، حتى لو حصد البعض مكاسب خاصة، فذلك إنما يفتت المجتمع ويشّظي الثقافة ويحطم الروابط الجامعة ويغذي ديناميات التفكيك، بما يخدم مقولة وثائق الخارجية الإسرائيلية 1951 (أن الفلسطيني سيتحول لغبار الأرض)، بل ويستقوي المخطط المعادي بالكارثة التي تحيق بعدة حلقات عربية إلى درجة القول: أنتم ضعفاء، وتخضعون للقوة، وجهاراً نهاراً استبيح قدس أقداسكم…
العقلية النمطية عاجزة عن إيجاد مخرج
بداية، ينبغي الاعتراق بالمشكلة، “فمعرفة الداء نصف الدواء”. أي ثمة انقسام فلسطيني حقيقي، بين الالتزام باستحقاقات “أوسلو” ومناهضتها، وثمة انقسام حول أشكال النضال، وثمة صراع على القيادة والقرار، وثمة تباينات في مصادر التمويل بما للمال في آثار مضاعفه عندما نعلم أن قوام موظفو السلطة الفلسطينية 170 ألف في الضفة وغزة علاوة على تقديم مساعدة اجتماعية لأكثر من 100 ألف عائلة، فضلاً عن 50 ألف وظفتهم حماس ونحو 40 ألف مقاتل لحماس والجهاد في غزة.
وموازنة السلطة الفلسطينية تجاوزت 5 مليار دولار في العام الجاري 2015 وناهزت موازنة سلطة حماس 900 مليون قبل اغلاق الأنفاق. وهذا كله يعتمد على “المساعدات” أما الضرائب فلا تصل 50%من الصرف الإجمالي، بل وكيف سيؤمن اقتصادنا الفلسطيني الذي يصل إنتاجه السنوي 10 مليار دولار هذه الأرقام؟
وببعض المجازفة يمكن القول، أن الحوارات والاتفاقات والمحاولات قد قفزت عن حيثيات الانقسام، أو كأن الخلافات تعود إلى زمن سابق، إلى خلافات فتح والشعبية، أبو عمار والحكيم، وأشدها حول “جنيف” و”الكونفدرالية” و”مشروع فهد” عندما كان الجميع يحرص على م.ت.ف كبيت للفلسطينيين، وما أن يسقط رهان سياسي يتسابقون للتلاقي…
الأمر مغاير اليوم، فما العمل؟
تفكير جديد
الذي يوجب التفكير الجديد هو اخفاق التفكير السائد، وعندما يفشل الطبيب في معالجة مريض يلجأ لدواء آخر.
ومقاربتي التي عرضتها بأشكال مختلفة من قبل اضافة للاجتهاد الذي يقرأ المتغيرات، تستند أيضاً لإرث المسيرة الفلسطينية، الذي كتب بأحرف من دم وتضحيات.
أنشأ مفكر فرنسي “لدى العرب عبقرية التاريخ” إذ كيف لم يندثروا وقد تعرضوا لقرون من الاحتلال، وهذا ينطبق على الشعب الفلسطيني. الذي لم يكن ليتجاوز عام النكبة والتطهير العرقي 1948 المليون وكسور. أما اليوم فهو قد بلغ 13 مليون منها 3 في الضفة الفلسطينية و 2 في غزة و 1,5 في 48 ومثلهم في البلدان المجاورة والشتات، ولم يستسلم لموازين القوى والظروف المجافية والمذابح من كل الطرز، ولم ينفك ممسكاً بزناد الحرية والعودة والتحرير.
ولئن كان يستهدف المحور المركزي في المخطط الاحتلالي أكثر ما يستهدف الضفة اليوم، متكئأً على تفوقه، فهو أيضاً يصطدم بعقبة كأداء عصيه على الدحر. فمجتمع الضفة تبلورت مكوناته الطبقية والمؤسساتية… فهو ليس مجرد مخيم معزول أو قرية صغيرة يمكن اقتلاعها أو تدميرها. فالضفة مكونة من 560 موقع بين مدينة وقرية ومخيم وبلدة وتنظيمات اقتصادية وأكاديمية ونقابية واجتماعية وثقافية…
ومهما قيل في المجتمع، فهو مشحون بقوة الصمود، إذ لا وطن آخر له، وبقوة الحياة كغريزة بقاء وكفاح، وزيادته الطبيعية تصل 6% سنويا، وتجمعه وحدة حال مع المجتمع الفلسطيني في غزة، وسرعان ما يواجهان معاً وينهضان معاً، كما لا يمكن فصم وشائجه مع التجمعات الفلسطينية الأخرى مهما تغوّلت السياسات العنصرية وفعلت فعلها الاسقاطات “الأوسلوية”. فالشعب الفلسطيني موحد في روحه وتاريخه وهويته وتطلعاته رغم أية تفاوتات غذّتها الشروط الموضوعية، وارباكات النخب السياسية. وهذه الروح التوحيدية لا تغيب إلا لتظهر ثانية. فهل التقسيم السياسي لألمانيا أطفأ وحدة الهوية الألمانية، وذات الشيء يقال عن الكوريتين… فالتاريخ والجغرافيا والهوية أكثر سطوة من السياسة مهمت تجبرت هذه السياسة.
ثمة 5 ملايين في الضفة الفلسطينية وقطاع غزة موزعون على 900 ألف عائلة، وقوة عمل تناهز 1,1 مليون تنخرها بطالة لا تقل عن 400 ألف ونسبتها أعلى في أوساط الشباب والمرأة وخريجي الجامعات… وقطاع تعليمي يستغيث طالبا الاصلاح وقطاع صحي أحواله في غنى عن الشرح ونظام إداري بطيء يحاصر كفاءاته، وأجهزة أمن بمختلف مسمياتها تفوق كثيراً قدرة الاقتصاد وفعاليات ثقافية مبعثرة بلا مشروع يستنزفها اسقاطات العولمة والمنظورات الجبرية وطغيان لغة السياسة والاعلام، وميزان تجاري مختل جذرياً: واردات تصل 5 مليار سنويا وصادرات لا تصل مليار واحد…
لا يحتاج إلى برهان القول أن اخلالات بنيوية عديدة تكتسح اللوحة الفلسطينية، أهمها ما يعتور النظام السياسي من تشظي وانقسام ونزعات فئوية ونخبوية واضاعة اتجاه تمسك بالثانوي وتغفل الأساسي… وهذا يثقل على الشعب ويزيد من أعباء تكيفه مع مصاعب المرحلة.
فما العمل؟
بداية يتعين الكف عن اللهاث وراء الأوهام. أوهام املاء الرأي على الآخر أو اقصائه، ووهم فرض الاستفراد بالقيادة والقرار، ووهم احتكار الحقيقة وأن “مساري” هو المسار الصحيح… فهذا كله جربناه ولم يثمر عن تحرير وطن أو حماية أرض، والأنكى من ذلك أنه لم يصُن وحدة الشعب. كما ينبغي التخلص من وهم ان الفريق أ سوف ينتقل الى مواقع الفريق ب… وطي صفحة الاحكام المطلقة… (الذي يختلف معي خائن أو كافر أو تابع لجهة جارجية)… فالأمر في جوهره تباين سياسات تعبر عن تباين مصالح ورؤى، رغم تأثيرات هذا العامل أو ذاك. فالمجتمع الفلسطيني منقسم طبقيا وشرائحياً وزعاماتياً وفكرياً وسياسيا ً… ولم يعد متشابه (مخيمات وقرى بسيطة وغابة بنادق ومدن لا تحمل من المدن إلا اسمها) كما كان الحال قبل 30-40 سنة. ولم يعد الجميع يحمل روحه على كفه ولم تعد القيادات هي ذاتها، ولم يعد الحلفاء هم أنفسهم، ولم تعد مصادر التمويل هي نفس مصادر التمويل، ناهيكم عن حجم الانفاق الذي تضاعف مرات.
لقد أصبحنا كما عدد من المجتمعات النامية، لكن دون استقلال وطتي.
ولا مهرب من المرور في المرحلة الانتقالية الراهنة. وأكثر ما يفيد الكل الفلسطيني، هو البحث عن القواسم المشتركة، القواسم الميدانية المشتركة.. وما أكثرها… منها:
توحيد الجهد لحماية ما تبقى من أرض، وقدس ومقدسات/ اتباع فلسفة استثمارية تفضي لتخفيف البطالة والفقر/ التصدي المشترك لمعضلات قطاعي التعليم والصحة/ إعادة هيكلة موازنة السلطة (السلطتين) واشتقاق الأولويات الأكثر الحاحية/ إتباع سياسة تقشف من أعلى الهرم إلى قاعدته/ التوجه للزراعة التي كانت تشكل أكثر من 60% من الدخل الوطني قبل 67 واصبحت اليوم 6% دون أن نتحول لمجتمع صناعي/ تشجيع خلق فرص عمل لا البحث عن فرصة عمل/ استعادة التضامن وروح المواجهة/ الإفادة من السياسة الاجتماعية لتجارب عديدة كمصر حاليا والبرازيل وو…/ التصدي للأفكار الأشد تطرفا التي تجد لها بيئة خصبة في أوساط معينة/ الالتفاف حول مطالب وأوجاع الحركة الأسيرة…
هذا كله يندرج تحت عنوان القواسم الميدانية المشتركة، وهو مشتق من دروس مسيرتنا الفلسطينية.
إذ رغم الانقسام على مشروع ريغن عام 82 وتباعد المواقف بين “قيادة تونس وقيادة دمشق” واقتتال فتح-فتح ومعارك البقاع والبداوي توحدت البندقية الفلسطينية ميدانيا للدفاع عن الوجود الفلسطيني في مخيمات بيروت في حرب ضروس استمرت عامين 83-85، ولمع هنا اسم القائد سلطان أبو العينين.
ورغم ما آلت إليه الأمور بين فتح وحماس في السنوات الأخيرة توحد الأسرى في اضرابهم عام 2012 لكسر قرار منع أهالي غزة من زيارة أبنائهم في السجون وتحرير المعزولين من “مقابر الأحياء”، مثلما توحد الوفد الفلسطيني في القاهرة اثناء العدوان على غزة 2014…
وهناك العشرات من المواقع النشطة في الأراضي المحتلة دون تمييز سياسي أو فكري ومئات المبادرات المحلية وتفاعلات قاعدية لا تحصى تعزف على نفس الربابة. وفي كل بيت ولقاء يتمنى الناس توحيد الكُل الفلسطيني.
وخط الوحدة الميدانية لم يجرب رسمياً، ومن شأن اختباره تجربته أن يفتح بوابة لتبديد الاحتقان وتقريب النفوس وتوحيد الإرادات، وهذا يخلق مناخات لما هو أبعد من ذلك.
أما “سلطة الحكم الذاتي” فهي دون سيادة طالما الاحتلال جاثم على صدر الشعب، وثبت عقم التنازع على “الوزارات السيادية”. ولتحريرها من الضغوط والاستحقاقات الأمنية والسياسسية، يتوجد إعادة تعريفها لتكون سلطة للشأن الحياتي على رأسها “حكومة كفاءات تكنوقراطية” قادرة على إدارة شؤون 5 مليون نسمة مثخنين بالأزمات، أما الحيز السياسي فيناط بالشعب وقواه و م.ت.ف والتفاصيل كثيرة هنا.
الآلية الملائمة للتفكير الجديد
هي تنفيذ البند الذي اتفق عليه في لقاء عمان 1/2012 بإنتخاب مجلس وطني فلسطيني، انتخاب في الداخل وتوافق في الخارج وفي هذا اللقاء تحدد القوام والنسب… ولا أحد في القوى الفلسطينية يعارض المشاركة في المجلس الوطني بما في ذلك “الجهاد”. مجلس منتخب يكون بمثابة مرجعية شاملة للشعب في الداخل والخارج، وأشبه ببرلمان، وهو بداهة يتسع للتعددية والتنوع، وميزان القوى لا يسمح لأي طرف بالهيمنة عليه، مثلما لا يقصي أحداً. ويمكن أن يشمل كل المركبات السياسية والاقتصادية والأكاديمية والثقافية والشبابية وو…
والأمر لا يحتاج لأكثر من اجتماع واحد للإطار القيادي لإقرار هذا التوجه.
ويفيد المجلس الابتعاد عن المناكفات السياسية والاكتفاء بديباجة عامة أما الجهد فيتركز لاشتقاق القواسم الميدانية وأولوياتها وصولاً إلى انتخاب لجنة تنفيذية لمنظمة التحرير. ولأنها سلطة قرار سياسي، شأن أي حكومة، يجري التنافسس عليها، أي هناك فائز وهناك معارضة، فلا تكون لجنة تنفذية شاملة يتعذر التوافق السياسي فيها.
وهذا التفكير الجديد رغم عيوبه هو أفضل بما لا يقاس من الحال الراهن “وتجربة المجرب” الذي لم يؤل إلا إلى مزيد من الخذلان والاخفاق والكراهية. وحتى أصدق أصدقاء الشعب الفلسطيني ينتقدون العجز الفلسطيني عن الوصول لأرضية مشتركة لإدارة التناقضات الداخلية ورسم مسار مشترك. أما معسكر الأعداء فهو مفعم بالفرح. وقد رد شارون على منتقديه: كيف تخلي غزة؟ بالقول: هؤلاء قبائل وسوف ترون…
ثمة مرحلة انتقالية لا مهرب من مرورها. أهم مفرداتها الاعتراف بالحقائق والتعايش والانتخاب وإعادة التعريف والقواسم الميدانية إلى أن تحل مرحلة جديدة، توجب تفكير سياسي جديد ويصعد فيها شخوص جدد وجولات جديدة في صراع طويل.