تنشر هذه السلسلة بالتعاون مع نشرة كنعان الإلكترونية.
من دفتر المفاهيم
عندما نرى المزيدَ من النساءِ يكملن تحصيلهن الجامعيّ ويقتنين الصحف اليومية والكتب الثقافية وَيَرْتَدْنَ المسرح ويذهبن وحدَهُنَّ إلى المدن، ليس فقط لتلقي العلاج لدى الطبيب/ طبيبة، ويُصْبِحْنَ عضوات وقياديات في الأحزاب السياسية، وليس فقط في النقابات والمنظمات العمالية، عندها يمكن القول أن تغييراً ما يلوحُ في الأُفُق. أن تُعطى النساء قروضاً، هو رسملة للنساء! فلكي تُقَوِّي وضع النساء فإنك تحتاج إلى تعاونيات نسائية هي منظمات قاعدية اشتراكية. هنا بوسعنا الحديث عن مجتمع يُقرُّ أن النوع واحد يساهم في تحرر المرأة ولا يحاصرها في معتقل التمكين.
ملاحظة في مفهوم وأخلاق التنمية:
سأبين أدناه ما معنى التنمية، أما هنا فأود الإشارة إلى تطاول وفلتان محلي على مفهوم التنمية، فما بالك بالممارسة. هل تتعدد “الفلتانات” في الأرض المحتلة، لأنها محتلة، رغم وجوب العكس. هنا تزعم سلطة الحكم الذاتي أنها دولة، وهذا الزعم يسمح لها أن تزعم أنها تقوم بالتنمية وتضع سياسات تنموية. فلا بد من زعم أنها دولة إذن. ولكن سياساتها الاقتصادية أقل من التحديث ولا تُطاول النمو، وسياساتها السياسية تطبيعٌ. ويلحق بالسلطة لفيف من الكتاب، بتعدد قاماتهم، متورِّطين ومورطين القارىء في تيهٍ وطني تحت غطاء الفكر، فيسمون المحتل 1967 بأنه فلسطين، ومجلس الحكم الذاتي بأنه تشريعي، والانتخابات في ظل أوسلو بأنها “الأكثر شفافية في العالم”، نعم هي شفافة جدا لأنها بلا جوهر وتكشف عن العورة تماماً. وهذا تطبيع بوعي ينتهي إلى جر المواطن للاعتراف بالكيان الصهيوني الإشكنازي، وإلا ما الذي يرغمهم على هذا الاستخدام!. يزعم هذا اللفيف أنه يكتب في التنمية دون أن نلمس وراء كتاباتهم ماذا يريدون، فهم ينقدون اقتصادات السلطة ويعملون تحت ظلال أوسلو، وينقدون المموِّلين الأجانب باعتبار أموالهم مسمومة ويصطفّون في نهاية الشهر على أبوابهم، فلماذا لا يتبسم الأجنبي شماتة واعتداداً بالنفس، وهناك من يرتكز على ماضٍ يساري دون أن ترى في كتابته ملامح رؤية “تنموية”، ينقد اللبرالية الجديدة ولا يطرح بديلا، ولو اقتصاداً مختلطاً، تأشيرياً…إلخ؛ فما بالك لو قلت له، ماذا عن فكر اشتراكي؟ بالعلاقة مع الأجنبي/ية غدا مهذَّباً وطيباً، يرى في الطبقة لغة متخشبة وفي القومية شوفينية وفي الاشتراكية طوبى، ويرى في الحركة العمالية انتظاماً لينينياً عتيقاً، وفي الحركة الطلابية صبيانية يسارية وفي خطاب الشيوعية شيئاً عتيقاً ويصر على أنه يسار!. هذه العِدَّة لازمة لها/ه كي يعرف كيف يتحدث وهو يقبض الشيك من الأجنبي، أو يوقع على منحة دراسية جوهرها عمل إخباري. هناك كتابات في “التنمية” يُزعم أنها ميدانية/إمبريقية عن قرية دون ذكر اسمها! ربما هذا من أصول العمل السري تحت الاحتلال! وبأسماء دون ذكر المكان وكأنها كُتبت على الطاولة، وهذا امتدادٌ لدراسات الجدوى في الأرض المحتلة في الثمانينيات. في هذه الكتابات يختلط نمط الإنتاج بشكل الإنتاج، وتحل الكتابة الصحفية السردية، في شكل رومانسي يسرده نصف مستشرق، محلَّ الفكر التنموي، ويحلُّ المحتل 1967 محلَّ فلسطين، ويختمون بضرورة إعادة “توحيد شطري الوطن”. فالوطن هو جغرافيا الضفة والقطاع حسب أوسلو، والفلسطينيون هم من يعيشون فيها حينما جرى توقيع أوسلو، بل حينما تمّ الإيقاع بالقضية. ربما إحدى أخطر مسببات هذا وغيره هو تواطؤ النقد الفكري مع الواقع النقودي!
لا يكفي في الأرض المحتلة أن تنقد السياسة الاقتصادية لسلطة الحكم الذاتي حتى تكون كتابتك تنموية. فلا بد للكتابة التنموية من أسس فكرية جوهرها اشتراكي، ومن أسس جغرافية جوهرها السيادة، ومن أسس وطنية جوهرها أن فلسطين هي كل فلسطين التاريخية وليست الضفة والقطاع، ومن أسس أخلاقية تؤكد أن الديمقراطية لا معنى لها تحت الاحتلال، ومن أسس دينية تؤكد أن الوطن وُجد قبل الدين وأن تحرير الوطن أسبق من تطبيق الشريعة.
التفكير النقدي/ الموقف المشتبك
لا بد من كلمة توضيح تأتي قبل البداية. فهذه الكتابة ليست مسائل مُطلقة ولا ثابتة، ولا تبتغي الأمر أو التسليم بها. هي مفاتيح، أو مشاكسات للذهن تستفزَّه كي يتحفز ويناقش ويحاور، لأن النقاش والحوار بوابات الإبداع الفكري والعملي. هناك متعة في الشقاوة الفكرية وخاصة في مبتداها، فهي تشبه شقاوة الأطفال في مبتداهم وهي الشقاوة التي تهمس في آذاننا بأن المستقبل لهم.
تبدأ هذه المحاورات المفتوحة بضرورة تفكيك مختلف المسلَّمات التي جرى حقن العقول بها، وتلقيمنا بها. بالطبع لن نناقش كل شيء، بل على الأقل ما يتعلق بمحاوراتنا. والكلمة هنا عن التفريق أو اكتشاف الفارق، وحتى التناقض، بين مسألتين تبدوان ظاهريا غير مختلفتين:
- التفكير الحر
- وحرية التفكير
الأصل في الانسان أن يكون مفكراً حُراً بطبعه، هي حرية خُلقت معه منذ البدء، لم يمنحه إياها أحد. التفكير الحر هو شأن العقل بل جوهره بمعنى أنه منطلق بلا حدود ليرى العالم بحريته الخاصة. وحرية التفكير هي ربما الحرية الوحيدة التي لم يتم، ولن يتم، انتزاعها من بني البشر منذ أن وُجدت الدولة والسلطة والملكية الخاصة والشرطة…الخ. ولأنها الحرية الأولى، بمعنى أنها أسبق من العمل الحر، لأن العمل احتكاك واستجابة خلاَّقة للوسط المحيط وبالتالي يمكن أن يواجه اعترضات أو قيوداً، ولأنها الحرية الأولى فهي تختلف عن “حرية التفكير”، لأن حرية التفكير تشترط قطبين أو طرفين:
- طرف خُلق حراً في التفكير بطبيعته ولكن حريته مقيدة لأنها تُعطى
- وطرف لديه سلطة منح أو منع الطرف الأول من حرية التفكير، أي طرف له طابع التحكُّم والاضطهاد.
وهذا معنى السلطة ومعنى القيد.
كل إنسان مفكر، كل إنسان مثقف في مجال أو مجالات، وهذا يقود إلى المساواة. وتعني المساواة أن يعتقد المرء ويقتنع أنه صاحب حق كغيره، أي أن ينتمي إلى إنسانيته. وهنا يتضح بلا مواربة أن الإنسان الحر هو الذي يفتح الطريق لحريات الاخرين ويشجعهم، ولا نقصد هنا أن يمنحهم حق التفكير والعمل، بل ألا يقف في طريقهم. ولكي تُثبت لغيرك، سواء كنت أنت الأب أو الأم أو الشيخ أو المُريد، يجب أن تحرك في الآخرين ما يشير إلى خبراتهم وقدراتهم ليكتشفوا أنهم متساوين معك. وفقط في هذه اللحظة يصبح الحوار حلالاً والفهم متبادلاً.
وإذا أردنا أن نقارب مشروعنا هذا، ومن لحظة البداية هذه، على المُحاورين والميسرين وخاصة المتقدمين في العمر والتجربة أن يقولوا بوضوح للجميع:
- أنتم الأفضل مهما رأيتم فينا، لأنكم تحملون ما سبقنا وما لدينا وتضيفوا عليه إبداعكم/ن. مهما استحكمت وتحكمت القوى المضادة للتاريخ، فالقادم افضل.
لماذا بدأنا بالتفكير؟
ربما لأنه الرد الإيجابي الأول على تحدي الطبيعة. هو النشاط الأول للعقل لابتداع ما يوفر الحفاظ على البقاء. لهذا يجوز لنا القول أن التفكير سابق على الكتابة والقراءة وحتى سابق عن التواصل بين شخص وآخر، فلا يتم التواصل كاحتكاك فيزيائي أو بالرموز والإشارات…الخ إلا بعد أمر من العقل بما هو آلة التفكير، لجزء آخر من الجسم كي يقوم بحركة أو علاقة ما.
لكن أسبقية الفكر على الكتابة والقراءة لا تنفي أنه يتطور بها وهذا منطق التحدي والتناقض والجدل.
والتفكير الحر لا يمكن أن يكون بلا هدف وبلا ضوابط. بل هو نتاج تاثير وشروط البيئة أو الوسط الاجتماعي والطبيعي، ولذا، فالتفكير الحر والنقدي هو تفكيرهادف. ولكي يكون كذلك حقا لا بد أن يأخذ الشروط التي وُجد فيها بالاعتبار. وهذا يعيدنا إلى القوانين الأولية للجدل أي التطور الشامل للحياة وقوانينها والترابط الشامل بين هذه القوانين وهذه تعني بدورها فهم الواقع فهماً عميقا. ولا يفهم الواقع سوى من يعيشه وينتمي والمعني به. والانتماء إلى الواقع لا بد أن يقوم على الثقة بالنفس وبالحقوق من الفرد إلى الجماعة، والانتماء يعني بالضرورة علاقة حب بين الفرد والجماعة، وهذه معاً تشكل قوة رفض للقمع والاستغلال والاحتلال وأية شروط قسرية على الإنسان.