يخلط التحليل الإجتماعي الأكاديمي الأصم أو حتى التوجيه الأيديولوجي القاصر في كثير من الأحيان العلاقة ما بين البنية التاريخية، وما تنتجه من تصورات يُنظر إليها بعين الثبات وتصنّف بفوق التاريخية، تغيّب فيها الإرادة الذاتية للأفراد والجماعات وتفاعلاتها مع السياقات الإجتماعية والسياسية.
مؤخراً، وفي نقد “فعاليات النشيد الوطني” تم استحضار البنية الإقتصادية وما تفرزه كمحدد أساسي لهوية وطابع الفعل الإجتماعي كمدخل نقدي، في الوقت الذي يُمارس فيه نقد ضارٍ للحتمية الإقتصادية التاريخية خصوصاً في السياقات الإستعمارية بشكل عام، وعلى وجه التخصيص السياق الإستعماري في فلسطين. والحديث هنا لا ينفيها كلية، وإنما ينفي كليتها التفسيرية وتوظيفاتها الجاهزة.
تقول زوجة الأسير الهشلمون منفذ العملية الفدائية جنوبي بيت لحم في مقابلة:”كنا نعيش حياة رغيدة وميسورة الحال. وضعنا المادي ممتاز، نسكن في بيت ملكنا، ونملك سيارة حديثة، ونسافر كل عام إلى بلد مختلف عن الأخر، أقول هذا لأوضح أن من يقدم على العمليات الفدائية ليس إنساناً يائساً ويشعر بالملل من الحياة. بالعكس ماهر شخص يعيش حياة سعيدة ويملك كل مقاومات الحياة ومع هذا أقدم على العملية فداء للقدس ومرضاة لله.”
هذا الاقتباس يوضّح مقومات ما يمكن أن يطلق عليه “بالطبقة الوسطى” بشكلها العام -البيت الخاص والسيارة والسفر الدوري بغرض السياحة – نافيةً في الوقت ذاته نمطين تفسيريين ماديين لدوافع المقاومة: الأول هو التفسير النفسي-التنموي لمكافحة التمرد، الذي يصوّر العمل الفدائي كنقيصة نفسية-مادية، وبالتالي فإن تحقيق “التنمية الإقتصادية” سيخفف من وطأة العمل الفدائي وإمكانياته. أما الآخر، أن المقاومة ما هي إلا تعبير طبقي وفي سبيلها فقط.
هذا يحيلنا إلى تلك التفسيرات التي أخذت تنفي في كثير من السياقات دور الإسلاميين في الفعل الإجتماعي. فالطبقة الوسطى في تعريف البعض: هي طبقة لا يمكن لها إلا أن تكون علمانية، وفي السياق الفلسطيني تسلب هذه التفسيرات الممارسة الوطنية عن شرائح واسعة بمجرد وضعها في خانة طبقية. في كل ذلك، يتم نفي التفاعل البشري مع السياقات السياسية الإجتماعية المولّدة له، ولكن ما يثقّفنا به الواقع، أن الأمور لا تسير بهذا الاتجاه الحتمي دائما، فالموقع الطبقي التاريخي لا يحدد الفعل الاجتماعي بشكل ميكانيكي، إنما الإرادة والوعي الذاتي، وتاريخ الثورة الفلسطينية الحديث والمعاصر شاهد على ذلك في كثير من مواضعه.
في المقابل كثيراً ما نرى من هم خارج ما يتم تسميته ب “الطبقة الوسطى”، يمارسون “ثقافة الطبقة الوسطى” أكثر من اولئك الذين يمتلكون مقوماتها المادية الفعلية، وهذا يدلل على محدودية المنطق التفسيري للحتمية الاقتصادية في السياق الفلسطيني. وفي النهاية، الانحياز شيء، وسلب الناس وطنيتهم شيء آخر، ولذلك نردد ما قاله الشهيد ناجي العلي: “مع ذلك أنا متهم بالانحياز، وهي تهمة لا أنفيها، أنا لست محايداً، أنا منحاز لمن هم “تحت”.