هذه القراءة تتناول الفصلين الأول والثالث من كتاب الطبيب النفسي فرانز فانون والمُعَنون “خمس سنوات على الثورة الجزائرية”، وهي التسمية التي أطلقت عليه إثر نشره بفرنسا، بينما نشر في نيويورك بعنوان “كولونيالية آيلة إلى الزوال” عام 1959. هَدَف فانون من خلال كتابه إلى تمجيد العمل الفدائي البطولي للشعب الجزائري وتوضيح أهمية الثورة في إعادة تشكيل المجتمع المستعمَر والذي سيثور بكافة الوسائل، ولم يهدف إلى توثيق مآسي هذا الشعب بالتفصيل.
في الفصل الأول بعنوان “الجزائر تلقي الحجاب” يظهر دور الاستعمار والثورة في إعادة تشكيل العادات الجزائرية، أهمها خلع الحجاب، وأثر ذلك على المرأة الجزائرية في علاقتها مع جسدها أولاً، ثم مع عائلتها وتحركاتها ومجتمعها والعدو. أما الفصل الثالث، فيستعرض لنا أهمية الثورة في إعادة تشكيل العلاقات العائلية، وضرورة الثورة في إعادة صياغة العلاقات المجتمعية وتوحيد الشعب في مواجهة العدو الواحد المشترك.
يتناول فانون في الفصل الأول مسألة الحجاب، ويطرح فكرة أن فرض نزع الحجاب كان سياسة استعمارية تهدف لمحاولة خرق المجتمع الجزائري وإخضاعه وتفكيكه باسم العلم. وباسم العلم تظهر فوقية المستعمِر، وهذا ما تصفه ليندا لانغ في مقالتها “قرابين محروقة للعقلانية” بـِ “الإبقاء على التحكم، مع الإيحاء الضمني غير المعترف به بأن المجتمع موضع النظر غير قادر إلى حد ما على حل صراعاته الداخلية، مقارنة بنا ((نحن الأوروبيين)) الأقدر على حل صراعاتنا الداخلية، وأن المجتمع يستفيد فعلاً وحقاً من تحكمنا المستمر” (119). وهذا تبرير عقلاني لدخول الجمعيات وحركات التضامن لتنفيذ أو فرض هذا القانون الاستعماري عن طريق إشعار الشعب الجزائري بدونيته أمام الاستعمار. كما أن الدونية والابتزاز تفشوا من خلال العنف الرمزي الذي يمارسه مدراء أو أرباب العمل الأوروبيون على العاملين الجزائريين في وضعهم بين خيارين، إما قبول الإهانة، متمثلةً بجلب زوجته ليراها المستعمِر في الاحتفال، أو رفض الدعوة وبالتالي التعرض للطرد.
بعد نجاح المستعمِر في خلع الحجاب أحس بالانتصار في مهمة إخضاع المجتمع الجزائري وتفسيخه، أي أحس بالقوة والسيطرة. لقد أحس بأنه كسب المرأة الجزائرية إلى صفّه كحليف في تدمير الثقافة الجزائرية، نتيجة لفوقيته وذكوريته في نفس الوقت. أي أنه اعتبر المرأة الجزائرية متلقية سلبية. وهذا يذكر بتشخيص غاياتري سبيفاك للمستعمِر البريطاني للهند عندما قالت إن الرجل الأبيض ينفذ المرأة السمراء من الرجل الأسمر (93).
كما يقول ماركس عن الاستعمار البريطاني في الهند، لقد شكل الاستعمار الأداة غير الواعية للثورة، وفي هذه الحالة فإن سفور المرأة أدى إلى تحولٍ في مسرى الثورة. بينما كان الرجال يحتكرون المقاومة، وفي ظل تخوفهم من أن تؤثر هذه التغيرات سلباً على مجرى الثورة، ارتأى قادة الثورة بعد تخبطات داخلية إلى إدخال المرأة إلى النضال والكفاح وليس فقط كدور مساند، بل كدور مركزي. لقد استغل الثوريون الجزائريون هذه الفرصة لإعادة النظر في الثورة.
وكشفت قضية السفور المفروضة احتمالات جديدة في النضال تستطيع المرأة فقط تحقيقها أو تسهيلها. وكان ولوج المرأة للنضال التحرري تدريجياً بما يتلاءم مع واقع المجتمع، انسجاماً مع ما قاله فانون: “عندما يباشر المستعمَر عملاً ضد الرجل المضطهِد . . . فلا بد له من أن يقهر عدداً هاماً من الأمور الممنوعة” (43). من هذه الأمور كان قهر الجزائرية لفكرة جسدها بشكله وهيئته الجديدة وتحركاته، كما مواجهة فكرة المحتل وما يقترن به من مخاوف. وبذلك انتقل العمل الثوري للمرأة الجزائرية من مهام خفيفة من مراسلات مكتوبة أو شفوية إلى مراقبة للثوار (كشافات) ثم حاملات للقنابل والأسلحة لحماية جنود الثورة.
إن انخراط المرأة في العمل النضالي أو في الثورة حوّل الخوف المجتمعي من العار إلى خوف على من كنّ أسرى العار، أي خوف على المرأة المناضلة من المستعمَر. وبالتالي كشف الكفاح عن علاقات جديدة ما بين الجنسين، غير مقتصرة على النظرة التقليدية، فالمرأة والرجل الجزائريان شريكان في النضال المباشر.
كان نزع الحجاب أمراً تحررياً، ولكن ليس بسبب الاستعمار الفرنسي، بل بفعل خلقه مساحة للمرأة بالانخراط في الثورة التي أعادت تشكيل وصياغة دورها وأهميته في استمرارية الثورة. ومع أن المرأة الجزائرية أعادت الحجاب بعد الثالث عشر من أيار، إلا أن قيمة الحجاب ورمزيته تجردت من البعد التقليدي.
يتناول الفصل الثالث التغيرات التي طرأت على شكل العائلة أثناء الثورة، وكنتيجة لحرب التحرر. قبل بدء الثورة عام 1954، كانت فكرة التخلص من الاستعمار ضرباً من الخيال بعد توغله بأعداد هائلة في مستوطنات مركزية، ما عزز جواً من فقدان الأمل. ولكن ذاكرة الشعب الجزائري كانت مليئة بالمآسي، فلم يخلُ بيت من ذكرى أسير أو جريح أو معذب، ولم تخلُ بعض البيوت من الشهداء سواء الزوج أو الابن أو الأب أو الأهل، وانتشرت ظاهرة التيتم نتيجة للمجازر وأعمال الحرق الوحشية التي مارسها الاستعمار الفرنسي. كلها كانت حية في ذاكرة الشعب الجزائري، سواء الفردية أو الجماعية.
كان غياب العمل الثوري قبل اندلاع الثورة مبقياً على علاقات عائلية ومجتمعية تقليدية لم تكن قد كسرت الحواجز بعد، وبعد استنزاف الوسائل السلمية في الصراع تم كسر العديد من الحواجز، أهمها العائلية في هيكليتها الأبوية. لم يعد الأب هو قدوة العائلة في القيم حيث سعى كل فرد إلى تحديد قيمه بنفسه. وهنا يفصّل فانون تغير العلاقات العائلية بين الأب والابن، الأب والابنة، وبين الأخوة، والزوج والزوجة، وأثرها على المجتمع ككل.
كان رمز الأب قبل الثورة مثالاً للأسرة في رفض وازدراء الاستعمار، إلا أنه كان رمزاً مستسلماً لحتمية الاحتلال، فالاحتلال أقوى وأقدر، والشعب الجزائري عاجز أمامه. مثّل تمرد الأبناء على وجهة الأب صراعاً بين عالمه القديم والعالم الجديد الذي يبنونه. هذا أشبه بما نشهده نحن كفلسطينيين في هذه الهبة الجماهيرية، حيث أن جيل أوسلو وما وُسم به من خضوع، أثبت نشوء عالم جديد مخالف لمنظومة أوسلو وما فرزته من استسلام لفكرة فلسطين من النهر إلى البحر. الابن الجزائري خلع رداءه ولبس رداء الفدائي ومع بزته الجديدة أسقط هيمنة الأب وانقلبت المقاييس ليصبح الابن قدوة الأب، وفي بعض الحالات التي كان فيها الأب متعاملاً مع الاستعمار، ما كان للابن الفدائي إلا أن يقصيه (حتى أن يقتله) في حال رفضه التخلي عن عالمه القديم. وبالتالي قلبت هذه التغيرات شكل العائلة التقليدي ببنيتها الأبوية.
وقد لوحظ هذا القلب أيضاً في علاقة الأخوة بعضهم ببعض، فبينما شكل الابن البكر القدوة لأخوته الأصغر منه قبل الثورة تطلبت الثورة أحياناً ترأس الابن الأصغر لخلايا عسكرية تضم أخوته الأكبر منه، وما كان لأخوته وأهمهم البكر سوى الانصياع لأوامر مسؤولهم (الأخ الأصغر) خدمة للوطن والحزب والثورة، وهنا تم كسر التراتبية الأبوية للعائلة وهيمنة السن.
علاقة الأب بالابنة أيضاً اختلفت فبينما كانت الابنة بعيدة عن الأب خصوصاً بعد الحيض والبلوغ، وبينما كانت الابنة لا تحاجج الأب لكيلا تغضبه، ويتفادى الاثنان الاختلاء وحدهم، وبينما كانت تمثل الابنة عبئاً على الأب فيضطر إلى تزويجها لكيلا يموت، ويتركها بلا سند، تحولت العلاقة، وبعد انخراطها في الثورة وخاصة في الجبال بصحبة المجاهدين لفترات قد تصل لأشهر، إلى علاقة أشبه بعلاقته بالابن الفدائي. فكسر حاجز العار الذي ارتبط بالعادات والتقاليد وكسرت الهيمنة الأبوية للأب على ابنته، فأصبحت الابنة المجاهدة تتحدث إلى الأب بثقة، وفخر الأب بابنته وفرحته بعودتها سالمة كسرت عنده حاجز النظر إليها كعبء. بمعنى آخر لم تعد المرأة تابعاً للذكر حيث أن دخول المرأة في الثورة أثر على علاقتها بالمجتمع ككل فتغيرت نظرة الأب لنساء المجتمع الأخريات، كما اختلفت نظرة المرأة لنفسها، وأصبحت أكثر وعياً لدورها الفعال في الوطن وتنصلت من موروث “كلمة الرجال”.
مما لا شك فيه أيضاً أن العلاقات الزوجية تأثرت كغيرها، فبينما كان الزوج يكتم عمله الثوري عن زوجته تحول مفهوم الزوجة لزوجها فرفضت خنوعه للنظام وعدم فاعليته في الثورة، بل أصبحت النساء تطمح بالزواج من الفدائي، ولا ترضى غير ذلك. وضرورة الثورة أعادت تشكيل العلاقة فأصبح من الضروري إشراك الزوجة أو إطلاعها على مجريات العمل، ولاحقاً انخراطها المباشر في العمل. فهناك أزواج استقطبوا زوجاتهن في العمل الثوري السري، وتطلب هذا العمل منهنّ مهمات مختلفة عن مهمات الأزواج، وبالتالي الاختلاء بغيره من القادة أو المسؤولين (أي الرجال). هذه العلاقات أعادت تشكيل علاقات القوى بين الزوجين، فلم تعد الزوجة تابعة أو مكملة للزوج، بل شريكته في العمل النضالي. وبطبيعة الحال تغيرت علاقات الزواج والطلاق فأصبح المجاهدون والمجاهدات يتزوجن دون إذن العائلة أو الأب، بينما لم يكن كذلك قبل الثورة. أصبحت المرأة قادرة على اختيار زوجها بنفسها أيضاً (والانفصال عنه) ما نفى دور الأب في هذا المجال. كما ظهر شكل مختلف للعائلة وأطفال الثورة المولودين في الجبال وبين الثوار.
إن تغير دور المرأة التقليدي أثناء، وكنتيجة للثورة، مكّن انخراطها الكلي في صفوف المجاهدين، ولكن ليس فقط كمراسلة أو كشافة أو ممرضة، ولكن ضمن عمل نسوي تنظيمي، أي في هيكلية خلايا نسائية وقيادة نسائية.
إذا نظرنا إلى تحليل فانون في هذه الفصول فإننا نرى أن تمكين المرأة كان بفعل قادة الثورة، أو بمعنى آخر الرجل الجزائري الثوري. ولكن ضرورة الثورة سمحت بهذا التغيير، بل وتطلبته، والنتيجة كانت كسر ثوابت المجتمع التقليدية والخروج بقوالب جديدة (وقد تمثل الفتيات الفلسطينيات في المواجهات الحالية بوادر هذا التغيير في مشاركتها رشق الحجارة جنباً إلى جنب مع الفتيان، كظاهرة مختلفة عن المراحل الماضية).
هنا نستذكر خطاب إيلا شوحاط بتلاصق الخطاب التحرري للمرأة في العالم الثالث بالوطن وتحرره. قد تكون المقارنة بين المرأة الجزائرية والمرأة الأوروبية/ الأمريكية (امرأة العالم الأول) في تلك الحقبة مختلفة كلياً في مطالبها لأن امرأة العالم الأول (الاستعماري) تجهل خطاب التحرر الوطني وأهميته في ظل الاستعمار، وقد تكون قراءتنا الآنية لفصول فانون متحفظة على رؤيته التي قد توصف بالماهية (إنكار الجنسانيات الأخرى)، إلا أن قراءته تكشف سيرورة معينة للمجتمع، فهي قراءة ماركسية تقتضي بأن الشعب يقرر مصيره وتاريخه، والنساء الجزائريات في نضالهن جزء لا يتجزأ من الشعب. الصراع الرئيسي في تلك الحرب هو صراع مع الاستعمار، كما أنه أساسي طبقي فهو صراع مع مستعمِر يملك الأرض، وصراع مع كل خائن جزائري منتفع تلتقي مصالحه مع الاستعمار، وفي ظل هذه الثورة تتكسر صياغة العلاقات القديمة وتتشكل وتعاد بما يخدم هذه الثورة.