لم يزل غسان مكبّل اليدين، ورأسه صوب شجرة زيتونٍ على أطراف بلدة بيت ريما، والمرض يشتد، قليلٌ من الصداع وكثيرٌ من البرد، سعلَ لعدة مرات وهو يحاول الإنصات إلى حديث الضابط مع أخيه محمد.
جاء الجنود ومعهم محمد، إقترب الضابط من غسان، وقف قليلاً قبل أن يعيد سؤاله:
– أين العبوات؟
– في المعسكر الواقع خلف منزلنا.
– أخوك اعترف يا غسان.
ألقى غسان بنظره صوب محمد، ورفع صوته:
– “أنا بعرفك؟؟“
وضع قائد الدورية قطعة قماشٍ سوداء على عينيّ محمد، ثم قام الجنود بسحبه إلى دورية الإعتقال، وعدّل “خيمي” من عويناته:
– والآن، هل تعرفه؟… لا داعي للإنكار، أخوك أخبرنا الحقيقة وعليكَ أن ترشدنا إلى مكانها.
كانت تراود غسان مئات من الهواجس الموحشة، تداخلت في أجزائه وتناثرت تدور مع خلايا السرطان في جسده وفكره، امتزجت خلاياه بهواجسه لتمزّقه من الداخل. تمالك نفسه وابتسم نصف ابتسامةٍ وهو يقول للضابط:
– هو معكم. دعه يخبركَ عن مكانها إن كان صحيحاً ما تقول.
مسك الضابط كتفه وهزّه بعنف، دفع رأسه وضربه بغصن شجرة الزيتون، كرر السؤال، رفع صوته، هدّده باعتقاله وتعذيبه، وغسان يحافظ على صمته.. وحدها الخلايا ما كانت تحكي، والسرطان يضرب في جسده، كاد ينهار، أحسّ بوهنٍ في ركبتيه ورأسه كاد ينفجر، شعر برغبةٍ فادحة في أن يضرب رأسه مراتٍ أخرى في جذع الشجره، ولم يفعل، أحس بضرورة الصمت في خضمّ هذه المعركة الطويلة التي امتدّت منذ أيام سجنه الأولى حتى اللحظة، معركة دامية تآمرت مع مرضه الذي يبذل كل ما في وسعه ليجرفه أكثر، سلاحه كان عارياً في وجه السجّان، متهالكاً، في الزنزانة كان أم الآن، فهو محض مقيّدٍ في جذع زيتونةٍ تمسّك بها مجبراً، وفي وجه المرض أكثر عريّاً من دون علاجٍ، لا طريق إلى “هداسا” ولا تصريح يدفعه إليها، وممنوع من السفر إلى “الأمل”في الأردن، فتفاقم المرضُ وافترسه، واشتدّت صرخة السجّان، امتزجت القوتين في إحتلالٍ واحدٍ مفزعٍ مثل صرخةٍ مفاجئة وسط القبور، مثل نهرٍ جارفٍ يأخذ ما يريد وغسان صخرة صامدة بصلابتها، بصمتها، بإرادةٍ إلهيةٍ لأن لا يجرفها النهر.
عاد الضابط مبتسماً وعيناه تشعّان بالازدراء، نبرة صوته قد غدت أقل حدّيةٍ وأكثر سخرية، فامتزج هذا كلّه في انطباعٍ واحدٍ أرعن ألقى في قلب غسان شعوراً غريباً باللامبالاة. حكّ الضابط رأسه وهو يقول بصوتٍ منخفضٍ:
– سيكون أخوكَ في ضيافتنا إذن.
– لا يهم، وفي الحقيقة أنا لا أحبّه.
– نستضيفُ أباكَ، أمّك، أختك…
– لا تصدّع رأسي، فقد قلتُ لكَ مراراً أني لا أكترثُ بأحدٍ سوى مزاجي. لا أملك غيره والمرض، خذهما إن شئت.
ارتسمت على ركن شفتيه ابتسامة خبيثة، وهو يحاول ملاطفته:
– أعرف أنك مريض، لذا لن أطيل عليكَ أكثر.
– المرض شيءٌ سخيف.
– لا تحلم بالسفر إذن، ولتمت وحدكَ… ها؟… اقتل نفسك بنفسك.
– لا رغبة لي بالسفر، ولا العلاج.
صكّ الضابط أسنانه، وتشنّج وجهه غاضباً، ثم قام بفكّ قيوده:
– “انصرف. من هون على بيتك… على بيتك… ما تروح هون أو هون“
ركب الضابط الدورية، وأخذ الجنود محمّداً وابتعدوا.
تلاشى النهار في سباتٍ عميق وعلى أنقاضه حلّ الليل وكان الهواء بارداً يصفع جبينه المصفرّ، توقّف عدة مراتٍ في الطريق، يأخذ نفساً سريعاً ثم يواصل السير في الطريق الطويل الى الدار.
وصل الدار بعد عناءٍ شديد، تناول دواءه ودفّأ نفسه جيداً، حاول أن ينتزع مشهد اختطاف محمّداً من مخيّلته ولم يستطع، نظر إلى سريره الفارغ، فاجتاحه شعورٌ خانقٌ بالفراغ، يداهمه الفراغ، يغزوه من الداخل والخارج، ينفذ إليه من كل مكان، يهبط من سقف بؤسه، يصعد إليه من أرض خيبته، يدخل في شرايينه، تدور فيه الخلايا، تخنقه الخلايا، يتسرب إليها الفراغ من كل مكان، يتشرّبه مع كل ذرة هواء، وينسلّ إليه مثل الطيف الثقيل. ولم يستطع النوم حتى الهزيع الأخير من الليل. أشعل سيجارةً وراح يفكّر في أمر العلاج، ابتسم قليلاً، وشعر برهةً بأن هذه الحياة قد غدت زاخرة بالقسوة والروعة في آن. “لا ضير فيما حدث، تجربة جميلة لأخي ومثيرة” راح يتجول داخل البيت ويضحك من أمر العلاج، ويسخر ممّا قاله الضابط عن قتله لنفسه “فليكن موتاً إذن، كان على ذلك الضابط الأحمق أن يعرف بأن هذا الجسد المفخخ بالسرطان سينتهي في أية لحظةٍ، ولكن ثمة أشياء لا يمكن لها أن تموت إلا إذا قتلناها أثناء حياتنا كالإنحناء أمام سطوة الضابط مثلاً” وكتب جملةً على حائط غرفته: “مرحى للموت، لأن شيئاً آخر سيبقى لو أدركنا أن الإنسان هو القضية“