فيما ركَّز انتباه الإعلام على الطابع الاستعراضي لهجوم نيوزيلاندا العنصري، والذي أودى بحياة 49 شخصاً، خاصة أنَّ المنفذ صوَّر نفسه مباشرة على شبكات التواصل الاجتماعي وهو يقتل المصلين؛ كان هناك طابع أخطر للهجوم، وأكثر تهديداً، وهو الطابع الفكري الذي أراد المجرم من خلاله أن يعطي لعمله بعداً وأثراً أكبر وأبعد من عدد الرصاصات التي أطلقها، والضحايا الذين تسبب بموتهم. فالعمليَّة كانت ذات طابع وهدف سياسي، وليس دموي فقط.
فقبل ساعة الصفر لبدء الهجوم الفعلي نفسه، بدأت عمليَّة القاتل في جانبها السياسي والإعلامي. فنشر القاتل نصاً قصيراً على موقع e-share للتواصل الاجتماعي، وبعد ذلك على حسابه على فيسبوك. في ذلك المنشور القصير أعلن الأسترالي ابن الثمانية وعشرين عاماً، أنَّه “سينفذ هجوماً ضد الغزاة وسيبثه مباشرة على الإنترنت”. وأرفق كلماته تلك برابط إلى ما أسماه “بيانه” أو “المانيفيستو” الخاص به. كان هذا الرابط يؤدي إلى وثيقة من 74 صفحة حملت عنوان “الإحلال الكبير”، وهو نفس عنوان كتاب المفكر الفرنسي اليميني المتطرف، رينود كاموس، المنشور عام 2010. يفسر كاموس في كتابه هذا نظريَّة مؤامرة طوّرها، مفادها أنَّ هناك مشروع موجّه لاستبدال الشعب الأوروبي الأبيض وحضارته بديموغرافيا وثقافة جديدة، هي شمال-إفريقيَّة وإسلاميَّة في جوهرها. وأنَّ مشروع الإحلال هذا يتم تنفيذه من خلال الهجرة الواسعة، وبتواطئ من السياسيين الأوروبيين. ويقول إنَّ هجرة الإحلال هذه يتم تسهيلها من خلال قوانين إنسانيَّة بظاهرها ولكنها اقتصاديَّة في جوهرها، فيرى أنَّ النخبة الرأسماليَّة في أوروبا والغرب عموماً تعي حاجتها إلى اليد العاملة الرخيصة، التي لم تعد المجتمعات البيضاء قادرة على توفيرها، بسبب تقلّص معدلات الولادة فيها، نتيجة نمط حياتها الفرداني. وفي بيانه ذي الـ 74 صفحة، يشير المجرم الأسترالي إلى كتاب كاموس غير مرة، كما يشير إلى مراجع أخرى من الفكر النازي الجديد واليمين المؤامراتي.
من الواضح أن مرتكِب المجزرة قد قضى من الوقت في التحضير لعمليته فكرياً، أكثر مما قضاه في تحضيرها عسكرياً. خاصة أنَّها، من وجهة نظر عمليَّة، لم تكن عمليَّة أمنيَّة أو عسكريَّة بالمعنى الحقيقي، فليس أحد بحاجة لكثير من المهارة والتخطيط لاقتحام مسجد ممتلئ بالمدنيين وفتح النار عليهم من عند المخرج الوحيد للمكان، في مساحة خالية من أي عائق يمكن الاختباء خلفه، ودون أي مقاومة ممكنة. إنَّه اختيار لعمليَّة سهلة ضد ضحايا ضعفاء، لكنه حرص في الوقت نفسه على إعداد الغلاف السياسي والإعلامي لجريمته بأيديولوجيا مركّبة من أفكار أنتج عنفها الجريمة. فما أراد القاتل أن يقوم به ليس مجرد قتل أشخاص، بل خلق حالة من العداء العرقي، كما يعترف بنفسه في منشوره المذكور، من خلال عمل رمزي يعطي زخماً لأفكاره.
كان العنف الفكري تاريخياً أحد خصائص الحركات الثوريَّة التحرريَّة، المعادية للفاشية اليمينيَّة. خاصة عندما كان مصاحباً لعنف فعلي، وخاصة عندما كان هذا العنف الفعلي رمزياً. فقد كانت الصحف الإيطاليَّة في أواخر القرن التاسع عشر تنعت الثورييين اللا سلطويين، مثلًا، بالـ”فلاسفة الحاملين للقنابل”. كذلك كانت كل عمليات اختطاف الطائرات التي قامت بها الثورة الفلسطينيَّة في الستينيات والسبعينيات، رمزيَّة في جوهرها، ومصاحبة لبيانات سياسيَّة. غير أنَّ هذا العنف الفكري والعملي الثوري، كان مبنياً دائماً على تناقض حقيقي مع المنظومة التي يسعى لمقاومتها، ولم يكن أبداً جزءاً من إفرازات هذه المنظومة نفسها أو أحد مكوّنات خطابها، كما هو حال العنف العنصري اليميني الأبيض اليوم.
هذه الهجمات العنصريَّة تخدم في نهاية المطاف نفس المنظومة التي تدّعي محاربتها. لفهم ذلك، يكفينا أن نفحص العلاقة العضوية بين صعود خطاب اليمين المتطرّف في الغرب، وتحديداً في الأوساط الشعبيَّة في الغرب، وبين الأزمة الاقتصاديَّة التي تعصف بالغرب نفسه منذ عشر سنوات. جاءت الأزمة الاقتصاديَّة، التي بدأت بانهيار قطاع العقارات الأمريكي عام 2007، لتضرب أوروبا كالإعصار بعد أقل من عام، في وقت بدا وكأنَّ العولمة الرأسماليَّة قد وصلت فيه إلى أقصى حدود تمددها الفعلي، بعد قرابة 15 سنة من نهاية الحرب الباردة، واحتفال الغرب “بنهاية التاريخ”، حين كانت جيوش شركات النفط والأمن والسلاح، تحت علم الولايات المتحدة وأعلام حلفائها، تخوض حروب سيطرتها من أفغانستان إلى لبنان، وتنشئ قواعد جديدة لها من الهند إلى كولومبيا. فالعولمة لم تكن تعني إذن سوق واحدة ورأسمال واحد متجاوز للقوميات فحسب، بل أيضاً حضوراً فعلياً للقوة العسكريَّة الموحدَّة لإمبراطوريَّة رأس المال في قارات العالم الخمس، إضافة إلى أجهزة مخابراته. وعندما تصل السيطرة إلى مرحلة فرض نفسها بالقوة العسكريَّة الخشنة، فهذا يعني أنَّ قوَّتها الناعمة قد وصلت إلى ذروتها.
وتماماً كما كانت روزا لوكسمبرغ قد أوضحت منذ أكثر من قرن، مؤكدة توقعات ماركس من قبلها، جاءت الحرب لتفتح أسواقاً جديدة تتمدد فيها الرأسماليَّة، بعد نفاذ قدرتها على التوسّع الجغرافي من خلال الاستعمار والاستعمار الجديد. فتشير نعومي كلين مثلاً، في كتابها “عقيدة الصدمة”، إلى أنَّه عند بدء غزو العراق عام 2003 كان معدل عدد المتعاقدين الخاصين من شركات الأمن الأمريكيَّة، بالنسبة لعدد الجنود الأمريكيين أنفسهم، 10 إلى 100. وبحلول تموز عام 2007، كان عدد المقاولين الأمنيين في العراق أكثر من عدد الجنود. جاء هذا التمدد كعمليَّة جرفت في طريقها الحدود الاقتصاديَّة، وإلى حد كبير الحدود الثقافيَّة، بين الدول القوميَّة، إلى الدرجة التي بدت فيها الدولة القوميَّة مجرَّد قشرة تنفيذيَّة لمصدر القوة الحقيقي، الذي لا قوميَّة له: رأس المال المعولم والعابر للجنسيات.
غير أنَّ هذه العولمة خلقت في طريقها عدداً لا حصر له من المشاكل التي لم تكن الرأسماليَّة مضطرة للتعامل معها من قبل، والتي ضربت مطرقتها المجتمعات الغربيَّة نفسها. فالاستثمار المعولم لرأس المال في بلدان الهامش، بدءاً باتفاقيات التجارة الحرة ونقل خطوط الإنتاج للشركات الكبرى إلى الجنوب، وليس انتهاءً بتحميل جيوش بأكملها على متن بواخر المارينز وإرسالها إلى الشرق الأوسط لإعادة تشكيله سياسياً، أدى إلى بروز آليات تهميش جديدة للطبقات الشعبيَّة في دول الغرب. تهميش بدأ يبني توتراً اجتماعياً وصل إلى درجة الغليان مع بدء الأزمة الاقتصاديَّة وانهيار الأسواق الماليَّة والمصارف، من نيويورك إلى أثينا، وما صاحب ذلك من خسارة الملايين من الأمريكيين والأوروبيين البسطاء لادّخاراتهم ومنازلهم، ووصول الكثيرين منهم إلى حافة الانتحار. بلا أدنى شك، أثبتت العولمة أنَّها تحمل بذور أخطر أزماتها في ذاتها.
ركّزت العولمة الرأسماليَّة على بحث طرق تصدير الأزمات كي يستمر رعاتها في الربح، ما دام ممكناً، ومن هنا صعد الخطاب اليميني وخطاب إعادة الاعتبار إلى دور الدولة القومية مجدداً. فخطاب “أمريكا أولاً” عند ترامب، أو “فرنسا للفرنسيين” عند لوبين، ليس سوى محاولة لإغلاق الباب أمام الأزمات التي تخلقها عمليَّة النهب الممنهجة للعالم، دون التوقف عن النهب نفسه. إضافة إلى تصدير اليأس والاحتقان الاجتماعي المنتشر في الأوساط الشعبيَّة في الغرب، باتجاه عدو مخترَع: الآخر، الأجنبي، وتمثيله المباشر، أي المهاجرين، في محاولة لتنفيس الاحتقان الاجتماعي من خلال احتقان ثقافي مبتدع. من هنا يمكننا أن نفهم، لا سياسات ترامب الانسحابيَّة من الشرق الأوسط، أو مشاريع الجدران من حدود المكسيك إلى حدود أوروبا فحسب، بل عودة النازيَّة الجديدة أيضاً. سواء كانت هذه العودة فكراً، أو خطاباً، أو قتلاً فعلياً للأبرياء في مساجد نيوزيلاندا، أو مزجاً من هذه العناصر جميعها. إنَّ هجرة اليد العاملة إلى الغرب وانتشار العنصريَّة ضد المهاجرين هما جزئين مكمِّلين للمشروع نفسه. وكذلك، فإنَّ قاتل نيوزيلاندا، وقاتل مدينة أورلاندو الأمريكيَّة عام 2018، وقاتل تشابل هيل عام 2015 وغيرهم الكثيرين ليسوا سوى حمقى مفيدين، وأجزاء من المشروع نفسه أيضاً. مشروع يديره قتلة أشد خطورة، لا يحملون البنادق، ولا يظهرون في الإعلام. بل يختبئون وراء مكاتبهم المغلقة، حيث يعملون على هندسة العالم ثقافياً واجتماعياً، من خلال مضارباتهم في الأسواق، وتسببهم بالحروب والمجاعات والحصار لشعوب بأسرها.