في غضون بضعة أسابيع، سأعود إلى بلادي بعد قضاء عام وبضعة أشهر هنا في مالطا، وقد كنت أفكر في الفترة التي قضيتها هنا، وأدركت مدى خيبة أملي، ليس في مالطا على وجه التحديد، ولكن في هذا النظام بالكامل، الذي يجعل من تهميش حياة الإنسان وتقليصه إلى أي شيء غير الإنسان، أمراً طبيعياً.
يظهر في الصورة لوحة جداريّة تسمى "بوابة المتوسط"، وهي لوحة لفنان شارعِ فرنسي في مدينة سليما في مالطا. هذا هو النصف الأول منها، والنصف الثاني يُعرَف بـ"نفق المتوسط"، ويقع في بلدة سابري في إيطاليا، حيث تُظهر اللوحة رجلاً مرهقاً، يخرج زاحفاً من نفق. (يمكنك العثور عليها هنا: https://twistedsifter.com/2015/08/the-mediterranean-tunnel-by-mto/)
الفكرة من وراء هذه الجداريّة تسليط الضوء على الرحلة البشعة التي يقوم بها الآلاف من اللاجئين والمهاجرين بشكل يوميّ وأسبوعيّ، من أجل تأمين حياة أفضل لأنفسهم وعائلاتهم في أماكن أخرى؛ سواء كان ذلك هرباً من الحرب، أو الظلم، أو عدم الاستقرار الاقتصاديّ، أو أي سبب آخر لعدم البقاء في بلدانهم الأصليّة.
هؤلاء الآلاف، معظمهم من بلدان عربيَّة أو أفريقيَّة، يحاولون عبور طريق وسط البحر المتوسط للوصول إلى مالطا ومن ثم إلى بلدان أوروبيَّة أخرى؛ حيث مالطا وإيطاليا هما وجهتا الهبوط الأولى. ومنذ أن بدأ ما يُطلق عليه أوروبياً اسم "أزمة اللاجئين"، بدأت المعاملة غير الإنسانية لكل من يعبر البحر للوصول إلى بر الأمان، من قِبَل الحكومات الأوروبيَّة وسياساتها.
في الصيف الفائت، عَلِقت سفينة إنقاذ تحمل أكثر من 200 شخص في عرض البحر لمدة 5 أيام بأدنى تقدير، في هذه الأثناء، كانت الحكومات المالطيّة والإيطاليّة والفرنسيّة تناقش ما يجب فعله بالسفينة والموجودين على متنها. فكانت الحكومات تتنصل من المسؤوليَّة تارة، وتارة أخرى تتعامل مع سفينة الإنقاذ على أنَّها خطأ من خلال وصفها بأنَّها "غير قانونية"، وتطول قائمة الأعذار "السخيفة" وتطول؛ كما لو كان هؤلاء الناس لديهم ترف الوقت للبقاء على قيد الحياة وهم عالقون على متن سفينة وسط البحر.
وبينما يحدث هذا السُخْف الدبلوماسيّ الذي لا معنى له؛ فُقِد أكثر من 100 شخص قبالة سواحل ليبيا، ومن ثم رُجِّح أنَّ مصيرهم كان الموت. كانت العائلات والأفراد على متن السفينة التي غرقت من بلدان مختلفة؛ من غامبيا واليمن وسوريا وفقاً للتقارير والشهادات.
في كل مرة نتلقى فيها مثل هذه "الأخبار" التي توصف عادةً بـ"حادث غير مقصود"، أتساءل من أين تحصل الحكومات وصانعو السياسات الأوروبيون على الجرأة لبدء النقاش حول حياة الناس. في أي عالم سخيف نحن، ليكون من الطبيعي أن نلعب دور الله وأن نقرر من سيحيى ويعيش بكرامة ومن يجب أن يموت؟
كان سبب انتقالي إلى مالطا هو الحصول على درجة الماجستير في العمل الإنساني من جامعة مالطا، وبعد عام دراسيّ كامل في هذا التخصص مع الطلبة والأساتذة الدوليين (معظمهم من دول أوروبيَّة ومن الولايات المتحدة الأمريكيَّة ودول آسيوية)، كانت المفاجأة بالنسبة لي، أنَّ الإجابة المباشرة على سؤال "لماذا يُهاجر الناس" لم تكن واضحة. لن أدّعي أنَّ هناك إجابة مبسَّطة عن هذا السؤال، لكن ادعاء أنَّ سياسات الحكومات الأوروبيَّة والولايات المتحدة والحكومات الأجنبية الأخرى لا علاقة لها بما يحدث في العالم اليوم هو أمر غير منطقي بالنسبة لي. في واحدة من هذه النقاشات مع أحد الطلاب حول الموضوع قال: "في الواقع، أود أن أحمِّل شخصاً ما مسؤولية ما يحدث لكنني لا أستطيع، ولن أحمل نفسي المسؤولية".
اعتقدت – وكان ذلك خطأ كبيراً – أنَّني مُنحت الفرصة لأن أكون جزءاً من برنامج اختاروا فيه، أو حاولوا على الأقل أن يختاروا، صفوة الطلبة للعمل في المجال الإنساني، ولكن بالرغم من ذلك، كان كل ما نفعله هو أنَّنا نحرّر أنفسنا من المسؤولية مراراً وتكراراً.
وقد حان الوقت لنتحمل مسؤوليتنا. نحن من فعل ذلك. نحن من دفع الناس نحو البحر، لعبنا دوراً فاعلاً في تحويل بلدان من هاجروا إلى مكان غير آمن سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً ودينياً. أجبرناهم على ترك منازلهم، ومن مسؤوليتنا أن نعترف بذلك على الأقل.
يميل الكثير من الناس، في جميع أنحاء العالم، إلى التظاهر بأنَّ الاستعمار قد انتهى، وأنَّ الإمبرياليَّة لم تعد موجودة، ولكن سواء أحببنا ذلك أم لا، فإنَّ الظلم والهيمنة الناتجة عن السياسات الخارجيَّة الموجَّهة نحو البلدان التي لا يطلق عليها تسمية "العالم الأول" ما يزالان واقعاً. وأود أن أشير أنَّني استخدم الضمير "نحن" لتوضيح الفكرة، لكنَّني لست جزءاً من "العالم الأول"، أنا أنتمي إلى ما يشار إليه باسم "دول العالم الثالث"، أو ما يُعرف الآن بمصطلح أكثر وديّة، "البلدان النامية"، ومع ذلك، لن أعفي نفسي من تحمل مسؤوليَّة ما يحدث في العالم اليوم.
ما أحاول توضيحه هنا، أنَّ فرنسا – على سبيل المثال – لا يحق لها أن تُصرِّح بعدم رغبتها باستقبال اللاجئين والمهاجرين، كما لا يحق لها أن تعمل على تعقيد إجراءات الوصول إلى فرنسا أو طلب اللجوء. فهذه الدولة التي ترفض استقبال اللاجئين والمهاجرين، هي ذاتها التي عملت على إنشاء قواعد عسكريَّة لها في العديد من البلدان الإفريقية (مثل: مالي، ونيجيريا، والسنغال، وساحل العاج، والكاميرون، وتشاد، والجابون، وغيرها)؛ كما أنَّها تسيطر اقتصادياً على هذه البلدان. ينطبق الأمر نفسه على إيطاليا، والولايات المتحدة الأمريكيَّة، والمملكة المتحدة، وحتى مالطا.
من هنا فإنَّ الطريقة التي تفكر بها هذه الدول غير منطقية إطلاقاً؛ حيث لا مشكلة بإنشاء قاعدة عسكريَّة في "البلدان النامية" أو الاستمرار في إرسال طائرات عسكريَّة لشن غارات جوية على سوريا – على سبيل المثال – ومن ثم التصريح "بعدم السماح للسوريين بالدخول، لأنهم يدخلون إلى بلادنا بشكل غير قانوني."
يمكنني أن أجادل لعدة أيام، أنَّه وفقاً للقانون الدولي – غير الفعّال – واللوائح والمعاهدات الدوليَّة، أو حتى على أبسط المستويات الإنسانيَّة الأساسيَّة، لا يوجد شيء يعتبر الوجود الإنساني "غير قانوني"؛ لكن هذا الجدال غير مهم، ما دمنا نتعامل مع الحكومات التي تواصل إصدار القوانين واللوائح التي تتعامل مع الوجود الإنساني على هذا النحو.
ولهذا، لن أحتفل بحقيقة أنَّ المملكة المتحدة "قبلت" 10000 لاجئ سوري (من بين الملايين في جميع أنحاء العالم) بحلول عام 2018، أو أنَّ فرنسا قد تلقَّت أكثر من 100,000 طلب لجوء في عام 2017 (وتجدر الإشارة إلى أنَّ معدل الرفض هو 73.2٪ لهذه الطلبات). ولن نحتفل بحقيقة أن 10 دول أوروبيَّة قد منحت أخيراً موافقتها للسماح للاجئين بالدخول بعد أن تقطعت بهم السبل في البحر لعدة أسابيع.
لماذا لا أحتفل؟ لأنَّ هذه الدول لا تقدم للاجئين والمهاجرين أي مزايا أو تتفضل عليهم من خلال قبولهم أو السماح لهم بالدخول، بل على العكس تماماً؛ من واجب هذه الدول القيام بذلك، لأنَّها لعبت دوراً كبيراً وأساسياً في قرار هؤلاء الأشخاص بمغادرة بلدانهم الأصليَّة.
تكررت هذا المواقف المتنصلة من المسؤولية مراراً خلال النقاش حول موضوع الهجرة، لكنَّني شخصيَّاً لا أعتقد أن موضوع الهجرة قد ظهر خلال النقاش بشكل كافٍ، ولهذا فإنَّني سأكرر: إذا كنت تريد إيقاف" أزمة اللاجئين" ووقف الأشخاص الذين يلتمسون اللجوء إلى بلدك؛ فتوقف عن قصف بلدانهم الأصليَّة، حتى لا يضطروا للهجرة، وحتى ذلك الحين؛ ليس لك الحق في رفض وجودهم في بلدك.
ما يُمارَس من ظلم تجاه اللاجئين والمهاجرين ليس خطأ الحكومات وحدها، بل المواطنين أيضاً. لقد سمعت أكثر من مرة، من أشخاص يعملون في مجال العمل الإنساني، عن رغبتهم بإحداث تأثير، والمساعدة أثناء الأزمة، وتغيير العالم لمكان أفضل – خاصّة في البلدان النامية-. لهذا السبب اختاروا دراسة العمل الإنساني، وهذه هي غايتهم الحقيقية في الحياة. ولهؤلاء أقول: "إن كنتم تريدون حقاً تغيير العالم، غيّروا حكوماتكم أولاً، غيّروا السياسات المجحفة التي تفرضها، واطلبوا منهم أن يخمدوا نيران الجحيم في بلادنا حتى لا نضطر للرحيل إلى بلادكم. ليست القنابل وحدها ما يدفعنا لترك بلداننا، فالهيمنة الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة من قبل الدول الأجنبيَّة وسياساتها تدفعنا لذلك أيضاً.
أرغب في تقديم حجة مفادها أنَّ من حق الجميع تغيير مكان إقامتهم، إمّا لأنَّهم اضطروا لذلك، أو لأنَّهم يريدون ذلك؛ ولكن، في عالمنا اليوم، نحن جميعاً نعلم أنَّ هذا ليس صحيحاً. في الحقيقة، لن تواجه مشكلة عند رغبتك في تغيير مكان إقامتك، إن كنت تمتلك مجموعة من الخصائص والصفات "المقبولة سياسيَّاً"، وهذا يعني أنَّك كلما كنت أبيضاً وأوروبياً، كلما كانت لديك فرص أفضل في أن تكون قانونيَّاً ومقبولًا، ولهذا السبب فإنَّ الخوض في هذا النقاش عبثي بالوقت الراهن.
سأستمر في تسليط الضوء على فكرة أنَّنا "نحن" جزء من تحول "بوابة المتوسط" إلى "مقبرة المتوسط"، واستمرار التأكيد عليها. من خلال ترك حكوماتنا تفلت من المحاسبة على سياساتها التي تجعل من حياة الآخرين لا تطاق لدرجة تدفعهم إلى إلقاء حياتهم –حرفياً- في البحر؛ هكذا نكون قد شاركنا في أخذ حياتهم منهم. إنَّها ليست خدمة نقدمها، وهي ليست قضية خيريَّة نتابعها، لكنَّها مسؤوليَّة تقع على عاتقنا.
لقد حان الوقت لنعترف بمسؤولياتنا ونتصرف إزاء ذلك.