كسر الفلسطينيون العرف المعهود في السجون الإسرائيلية وهو أن الإضراب المفتوح عن الطعام هو آخر أسلحة الأسرى التي يشهرونها في وجه السجان لتلبية مطالبهم المعيشية والحياتية داخل الأسوار. فبعد إرجاع وجبة أو وجبتين والامتناع عن الخروج إلى الساحة "الفورة" والقيام للعدد والخروج للزيارة والمحكمة وهكذا، يصلون إلى إضراب مفتوح عن الطعام يضم كافة أصقاع السجون من الدامون شمالا وحتى النقب ونفحة جنوبا.
جاء هذا "الكسر" اليوم، فتجد الأسير (الإداري بالتحديد) سرعان ما يبدأ بما كان ينتهي إليه الأسرى: إضراب مفتوح عن الطعام لوقف حلقات تمديد اعتقاله الإداري المتجددة. ودشن هذا النوع من النضال الأسير خضر عدنان، الذي أضرب لمدة قاربت الثلاثة أشهر لتجبر سلطات الاحتلال على إطلاق سراحه غير المشروط، فأعادت اعتقاله. ولكن إن كان في المرة الأولى ينتظر دورة إدارية أو اثنتين لإعلان إضرابه، فإنه في المرة التالية كان يعلن إضرابه منذ اليوم الأول، لدرجة أن البعض أصبح يتندر بأن الشيخ أعلن إضرابه في الطريق إلى السجن.
تبع خضر في هذا الأسلوب عشرات الأسرى الإداريين من كافة الاتجاهات السياسية، مثل نضال أبو عكر وابنه محمد ورفاقه ومصطفى حسنات وحذيفه حلبيه المضربين عن الطعام لليوم الـ(32) وغسان زواهرة الذي خرج ليجد شقيقه قد استشهد في مطلع هبة 2015 وخالد فراج الذي ينتظر موعد إطلاق سراحه دون أن يجد أباه ينتظره بين المنتظرين والقيادي حسام الرزة الذي تجاوز الستين من عمره وأضرب لحوالي ستين يوما ونجح في فك قيده قبل أيام، وهناك الأسيرة هناء شلبي، التي أضربت لخمسين يوما وأبعدت إلى غزة.
لا تخفي قيادات السجون نقدها المبطن لهذا النوع من النضال في تحقيق المطالب، لأنه ينطوي على حالة إفرادية لا يستطيعون مناصرتها ولا حتى مجاراتها، ما يظهرهم أمام أنفسهم وأمام شعبهم كأنهم يتركون رفاقاً لهم يموتون جوعاً، رغم أن هذا لم يحدث على الإطلاق، لأن إدارة السجون تنقل الأسرى إلى المستشفيات عندما تستشعر خطورة أوضاعهم، لكنها على ما يبدو كفت عن ذلك واستبدلته بفتح مفاوضات معهم غالبا ما تتوج باتفاق يطلق عليه الأسرى كلمة "جوهري". ويبدو أن الإدارة وجدت ذلك "أقل خسارة" من النقل إلى المستشفيات، وكي لا تتعرض لضغط المسيرات والمساندة في المستشفيات.
مرات عديدة هدد الأسرى في السجون بإعلان برنامج تضامني مع أسير مُضرب، وتدريجياً يشارك كافة أسرى الفصيل بالإضراب، لكن إدارة السجون عادة ما تتدارك الأمر قبل الوصول إلى النقطة التي قد تجعل بقية الفصائل تنضم إلى المواجهة.
يذهب الأسير إلى إعلان إضرابه المفتوح عن الطعام لحالة عارمة من الشعور بالظلم المركب، فالحكم الإداري بحد ذاته ظلم لأن ملف الأسير يظل طي الكتمان وبالتالي لا يحظى بأدنى مقومات المحاكمة العادلة أو نصف العادلة، ثم يجد نفسه في يوم انتهاء مدته الإدارية أمام تجديد جديد وحكم جديد. هذا الظلم الاحتلالي يقابله ظلم فلسطيني من لدن السلطة وأجهزتها الأمنية والإعلامية.
يخوض الأسرى إضراباتهم بدون أي مظاهر شعبية أو فصائلية لمناصرتهم، بل تسمع أحيانا انتقادات "وطنية" لهذا الشكل من النضال، الذي تخجل منه القيادة الرسمية بدلاً من أن تجاهر وتباهي به العالم. هو نوع من أنواع وصول الأسير الإداري إلى الحائط والكفر الذاتي بكل مقومات المجابهات الأخرى إلّا بمقومات النفس والاعتماد على الإرادة.
ولربما أصبحنا أمام حالة جديدة، فما أن يمضي الأسير مدة محكوميته الثالثة (18 شهرا) حتى نراه قد حزم رأيه وبرشه لإعلان الإضراب المفتوح عن الطعام في انتظار عزله ونقله قبل مفاوضته للحصول على اتفاق جوهري.
لهؤلاء الاسرى الذين أضربوا عن الطعام فرادى يعود الفضل الكبير في حفر جدول نقي وصاف كي يصب في نهر النضال الجارف. هؤلاء الأفراد أصبحوا بعد حوالي عقد من الزمن "جماعة" ذات نهج جديد يقوض الحبس الإداري بالمجمل. . وبما أن الثورة لم تنجح بإلغاء هذا الإجراء التعسفي والقهري عبر كل تاريخ مفاوضاتها مع الكيان (حوالي نصف عمرها)، فسيظل يقبع في سجون الاحتلال عدة مئات بشكل دائم، بينهم بعض المضربين عن الطعام بشكل دائم أيضاً.