تمهيد تاريخي: العلويون في المغرب
في البداية، لا بد من توضيح المفاهيم والموضوع كي لا نُتّهم بالغموض؛ سنعالج ونحلّل موقع القضية الفلسطينية -والتي هي أساساً قضية شعبٍ يخوض صراعاً مريراً من أجل التحرّر الوطني والاجتماعي ضدّ النظام الاستعماريّ الصهيوني وحلفائه في المنطقة- في الأيديولوجيا الكولونيالية المغربية.
ونقترح في هذا النص تحليلاً نظرياً تاريخياً للأساس الذي تستند عليه هذه الأيديولوجيا الكولونيالية محاولين تعريف خصائصها التاريخية. ونطرح السؤالين: ما هي الأيديولوجيا الكولونيالية المغربيّة؟ وفي أي سياق عالمي تقيم هذه الأيديولوجيا تحالفاً مع الأيديولوجيا الصهيونية؟
التكوين التاريخي التراكمي للأمم والدول والرأسمالية في شمال البحر الأبيض المتوسط، والذي بدأ مع اليونان قديماً، قد تميّز أساساً بأنّه تحقّق من خلال تفكيك الوحدات والبنيات القبلية. على إثر ذلك، بدأت سيرورة إخضاع الفلّاحين بسبب ارتباطهم المادّي في الأرض للسيّد الإقطاعيّ مالك الأرض، وبعد ذلك نما نمط الإنتاج الرأسمالي إثر الصراع بينَ الطبقة الإقطاعيّة من جهةٍ، والطبقة البرجوازيّة الناشئة من جهةٍ أخرى، إجمالاً وباقتضاب.
أمّا في جنوب البحر الأبيض المتوسط فقد تميّز التكوين التاريخي للدول والأمم بالتعالي والمحافظة على الوحدات والبنيات القبلية في أشكالٍ أكثر توسّعاً. وكان للإسلام دورٌ حاسمٌ في هذه العمليات التاريخية (أي التعالي والمحافظة)، مع التأكيد على أن هذه العمليات كانت قد شرعت في البروز، خاصّةً فيما يخص شمال أفريقيا وشمال الصحراء: المغرب، الجزائر وتونس. الحضارة البربرية والتي تكوّنت منذ أربع ألاف سنة قد عرفت تقسيماً أولياً بين المدن- القرى وهو الشكل الأبسط من تقسيم العمل الاجتماعي. إن هذه الخاصّية التاريخية (التعالي والمحافظة) [1] قد تجذّرت مع الانفتاح على العالم العربي؛ وقد رافقها في نفس الوقت، شكلٌ مميزٌ من أشكال الصراع الطبقي بين النخب القبلية المتحالفة مع الطبقات التجاريّة (أو ما تسمّى بالمركنتيلية)، المرتبطة بهذا الانفتاح من أجل تحقيق الدولة المركزية الموحّدة من جهةٍ، والطبقات الفلّاحية التي كانت تناضل من أجل الحفاظ على استقلالها، من جهةٍ أخرى.
هذا التناقض حفّز بروز الإسلام الشعبي (القريب من تصوّر فئة الخوارج) عند الفلاحين، كأداةٍ ايديولوجيّة لمعارضةِ الإسلام المؤسّساتي للدولةِ المركزية. أمّا المحرّك الأساسي الآخر لنشوء الدول المركزية، تمثّل في ضرورة ضبط أماكن وصول وتوزيع تجارة القوافل في شمال الصحراء، التي كانت تنقل أساساً الذهب من غانا التاريخية. ومع تطوّر التجارة البحرية الأوروبية، تمكّنت الدولة المركزية- المخزن[2] من الحفاظ على نفسها من خلال نهب إنتاج الحبوب للقبائل الخاضعة وتصديره إلى الأسواق الرأسمالية الأوروبية من أجل الحصول على الأسلحة والسيولة النقديّة الضرورية لدوام استبدادها.
بوضوح نقول، هذا هو الأساس التاريخي والدور التاريخي للدولة العلوية في المغرب، باعتبار أن التطوّر التاريخيّ للعلاقات بين القبائل والحكم الملكيّ، وعلاقتها الحديثة تاريخيًا مع الاستعمار الأوروبيّ هي ضرورة لاستمرار الملكيّة المغربيّة. إذ أن مقولة ملك المغرب، الحسن الثاني “لن أطلق سراح من يشكّك في أربعة عشر قرناً من التاريخ المغربي”، بخصوص مناضلي منظّمة “إلى الأمام” التي تنتمي إلى الفكر الماركسي اللينيني، تعبّر عن الأيديولوجيا “الرسمية” المصنوعة كولونيالياً في المغرب اليوم. وتتّسم أساساً بنفي التناقض في جميع مستوياته الأيديولوجيّة، الاقتصاديّة والسياسيّة، فيصبح تاريخ المغرب هو تاريخ السلاطين والملوك العلويين.
تحمل “الأيديولوجيا الكولونيالية” المغربيّة، شعار “الوحدة الترابية”، الذي يراد له أن يخفي تاريخ التناقضات في شتّى مستويات الحياة المادية. به ومن خلاله، يظهر تاريخ المغرب فقط من خلال تاريخ المؤسّسة الدينيّة الرسميّة، وتظهر فيه السياسة فقط من خلال نظام الحكم المركزيّ والسلطان. أمّا الصراع الطبقي فهو مدان طبعاً باسم “السيبة و”التمرّد” على الدولة. إن هذه السردية النافية للتناقض في تاريخ التكوين الاجتماعي المغربي، هي أساس الايديولوجية الوطنية البرجوازية المغربية الراهنة.
ومن المهمّ الإشارة إلى أن هيمنة البرجوازيّة المغربيّة وتحالفها مع الملك، منذُ القرن الماضي، رافقتها الجرائم التطبيعية التاريخية؛ ونقصد هنا عملية “بيع اليهود العرب والمغاربة” إلى الدولة الصهيونية الناشئة حديثًا آنذاك تثبيتًا لوجودها الديموغرافيّ، وهي جريمة سياسية وإنسانية في حقّ الفلسطينيّين واليهود والتحرر الوطني والاجتماعي في كامل المنطقة. أمّا الجريمة الثانية فهي التعاون والتنسيق من أجل اغتيال المناضل الثوري المغربي المهدي بن بركة، حيثُ أن اغتيالهِ كان جزء من مقايضة سابقة، توجّب على “إسرائيل” أن تقدّم رأس المناضل الوطني المهدي بن بركة ثمنًا لمساعدةٍ جيوسياسية ستقدّمها لها الملكية، ضدّ الأنظمة القوميّة واليساريّة العربيّة، في تلك الفترة.
إذن، يخطئ من يظن أن تطبيع النظام المغربي مع “إسرائيل” هو حدث جديد، أيديولوجيا البرجوازية الكولونيالية المغربية اتّسمت دائماً بعدائها لقضايا التحرّر الوطني والاجتماعي في المنطقة. أهمّ أشكال هذا العداء هو دعمِ مشاريع الإمبريالية التي تقضي بعزل المقاومة الفلسطينية، والتي أدّت لاحقًا إلى مجازر في عام 1970 بقيادة ملك الأردن الحسين.
خصوصًا في تلك السنوات، يمكننا أن نلحظ كيف كان النظام المغربي و”الأيديولوجيا الوطنية” يقدّمان تنازلات لحركة اليمين المتطرّف العالمية آنذاك خاصّة مع الجنرال فرانكو في إسبانيا. واليوم، تستمرّ هذه العلاقة الوطيدة وتؤكّد نفسها من خلال علاقات الملكية مع الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب والدولة الصهيونية.
الصهيونية في زمن “السيزارية” والدولة المتسلطة
برّرت الأيديولوجيا الوطنية تطبيع النظام المغربي والملك مع “إسرائيل”، بما ستقدّمه هذه العلاقة من دعمٍ اقتصادي للمغرب، واعترافٍ أميركيّ بالسيادة على الصحراء الغربيّة، وفي الوقتِ ذاتهِ؛ اعتبرت أن هذا التطبيع لا يغيّر شيء من “موقف النظام الداعم للقضيّة الفلسطينية”، إلا أنّنا في هذا السياق نوضّح ونكرّر أن النظام السياسي المغربي لم يدعم يوماً القضية الفلسطينية، بل وتميّز بعدائهِ الشديد لقضايا التحرّر الوطني والاجتماعي في أفريقيا والوطن العربي.
ولكن، علينا أن نلاحظ أن هذا التبرير مرتبط أيديولوجياً بالفكر الفرنسيّ الإمبرياليّ في الشكل الليبراليّ، وأذكر على سبيل المثال أنه في عام 2003، في خضمّ الانتفاضة الفلسطينية الثانية، صدر في فرنسا كتاب جماعي باللغة الفرنسية عنوانه “نفسّر الصهيونيّة لأصدقائنا” (Zionism explained to our friends)، أشرفَ على كتابتهِ مفكّرين فرنسيين يميلون إلى الصهيونيّة، منهم؛ برنارد هنري ليفي، جاك تارنيرو، ألكسندر أدلر، ايلي بارنافي، باتريك كلوجمان.
الغرض من الكتاب إعادة شرح وتفسير مفهوم الصهيونية لـ”أصدقائهم” بغرض إقناعهم بعدم وجود تعارض بين أن تكون صهيونياً ومواطناً فرنسياً، أو حتى بين أن تكون صهيونياً من جهةٍ، وأن تكون داعماً للقضيّة الفلسطينية، من جهةٍ أخرى. وهذه المواقف تشبه كثيراً موقف النظام وأسلوبهِ الخطابيّ في تبرير تطبيعه العلنيّ مع الصهيونية. وهي بقدر ما تثير الضحك والاشمئزاز، بقدر ما تشير إلى أن الأيديولوجيا الوطنية الكولونيالية مستعدّة للاستفادة من كل جديد أيديولوجيّ يقدّمه اليمين المتطرّف على المستوى العالمي. ومن المرجّح أيضاً أن يتم اعتبار معاداة الصهيونية كشكل من أشكال معاداة السامية كما صرّح بذلك الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. وبالتالي، إمكانية محاكمة كل نضال ودفاع عن القضية الفلسطينية بتهمة معاداة الصهيونية كشكلٍ من أشكال معاداة السامية.
إن تطبيع النظام الملكيّ لعلاقاته مع الصهيونية والفاشية العالمية يأتي في سياق عالميّ يتسّم أساساً بهيمنة ما أسماه أنطونيو غرامشي بـ”السيزارية” أو القيصرية وبما أسماه نيكوس بولانتزاس، الدولة المتسلّطة. وفقًا لذلك أجد أن موقع النظام الملكي في المغرب، في الترتيب العالميّ كتابعٍ للامبرياليّة، ودورهِ الكولونيالي الإستراتيجي في أفريقيا، يتجسّد ويُمارس راهناً وتاريخياً عبرَ لجمِ الصراع الوطني والاجتماعي في كل أفريقيا والوطن العربي.
من المهمّ الإشارة سريعاً إلى أن النظام المغربيّ كان الراعي الأول للثورةِ المضادّة في الوطن العربي وأفريقيا؛ في الزايير، في موزمبيق، وفي أنجولا، وحيثما كان الصراع الوطني والاجتماعي ينفجر من أجل التحرّر كان النظام يقوم بدور الكلب الحارس لمخطّطات باريس- واشنطن، أي أنه الراعي الأول للدول المتسلّطة (كما يسمّيها بولانتزاس)، ومشاريعها الكولونيالية في المنطقة.
الانطلاق من هذين المفهومين “السيزارية” والدولة المتسلّطة، يجعلنا مباشرةً في مواجهة الحقيقة التالية: إن الرأسمالية تتطوّر نحو أشكالٍ غير “ديمقراطية” للممارسة السياسية، وهذه الأشكال يضبطها غرامشي نظرياً من خلال مفهوم “السيزارية”، وبالموازاة يضبطها بولانتزاس من خلال مفهوم الدولة المتسلّطة. وهذا بالأساس ما يميّز عصر الأزمات العالمية، حينما تسيطر على الساحة الأيديولوجيّة والسياسيّة مؤسّسات لا تعطي اعتباراً للديمقراطية: الجيش، والمالية، والبيروقراطية والكنائس وغيرها، في مقابل تراجع للمؤسّسات الديمقراطية والبرلمان. بهذا المعنى تكون ظاهرة الدولة المتسلّطة ليست فقط نزعة تنمو وتهيمن حيث تسود الديمقراطيات التمثيلية، وإنّما هي مصير كل النظم الديمقراطية في عصر الأزمات.
لن أتعمّق هنا في المفهوم، ولا أودّ أن أخوض في التمييز الذي أدخله بولانتزاس بين الدولة المتسلّطة والدولة الاستثناء، غرضي هو أن أوضّح أن تطبيع المغرب لعلاقاته مع الصهيونية والفاشية العالمية يأتي في سياق تحوّل الديمقراطيات التمثيلية الى نظمٍ ودول متسلطة. أما من الناحية الأيديولوجيّة، فالسياق يتّسم بصعود الأيديولوجيات اليمينية المتطرّفة والصهيونية في أشكالٍ جديدة. إذاً، في لحظات الأزمات الكبرى، تسيطر “السيزارية” على النظم الديمقراطية التمثيلية، وتتصاعد الأحزاب الرجعية اليمينية والفاشية والفاشية الجديدة، ويتصاعد معها دور الأجهزة القمعية للدولة، مما يهيّئ المجال والأفاق لبناء تحالفات وعلاقات مع الدولة الصهيونية والفاشية. وهذا ما تؤكّده أطروحة المؤرّخ الأميركي ليني برينر في كتابهِ “الصهيونية في زمن الديكتاتوريات”[3].
ولكي نعمّق أطروحتنا، لا بدّ من التأكيد على أن علاقة الملكية المغربية والنظام السياسي المغربي بالصهيونية تتعدّى مسألة “التحالف المؤقت والمصلحي”، وإنّما لها دلالتها القوية التي تكشف عن طبيعة النظام السياسي الدكتاتوري في المغرب، لعلّ عملية ياخين (1961/1964) التي كان الغرض منها سدّ النقص الديموغرافي اليهودي، والتي رعاها الملك الحسن الثاني، ذات دلالة قويّة على ما نحن بصدد البحث فيه. حيثُ أن هذهِ العمليّة كانت التنفيذ المباشر للمخطّط الكولونياليّ؛ التهجير والنقل وإزاحة مجموعات اليهود في المغرب العربيّ لمصلحة الدولة الصهوينيّة الناشئة حديثًا دعماً لها وإسناداً. إنّها عملية إزاحة لليهودي المغربي ليقوم بتثبيت المشروع الصهيوني في فلسطين وكامل المنطقة. ويدلّ ذلك على أن البنيات الكولونيالية قد حافظت على بقائها انطلاقا من رعايتها للثورة المضادّة والصهيونية في كامل المنطقة. سنكمل في المقال التالي، معالجة قضيّة اليهود المغاربة، وهي قضيّة توظّفها الأيديولوجية الصهيونية والكولونيالية لتبرّر مشاريعها، وسيكون غرضنا هو معالجتها انطلاقاً من منظور التاريخ الماديّ.
هوامش:
[1] التعالي والمحافظة مأخوذة من مفاهيم المقاربة الوظيفيّة لعلم الاجتماع؛ المجتمع عند الوظيفية هو نسق من الأفعال والبنى المحدّدة والمنظّمة. هذا النسق المجتمعي يتألّف من متغيّرات مترابطة بنائياً (بنى) ومتساندة وظيفياً (وظائف)؛ ذو طبيعة متسامية ومتعالية تتجاوز وتعلو كل مكوناته بما فيها إرادة الإنسان؛ هذا التجاوز أو التعالي الذي تتحدد شروطه من خلال الضبط والتنظيم الاجتماعيين اللذين يُلزمان الأشخاص بالانصياع لهذه الطبيعة المتسامية والالتزام بها. إذ أن أي انحراف عنها يهدد أسس بناء المجتمع التي تعد المحافظة عليه وصيانته وتدعيم استمراريته غاية بحد ذاتها (دكتور أكرم حجازي).
[2] المخزن والسيبة؛ مصطلح “السيبة” يحيل الى المجال الترابي الذي لم يكن خاضعا لأي سلطة مركزية وحيث القبائل تمتنع عن أداء الضرائب، على عكس “المخزن” الذي يحيل إلى تحالف القبائل مع السلطة المركزيّة، أي العائلة المالكة.
[3] انظر إلى: ليني، برينر. الصهيونية في عصر الديكتاتورية، الترجمة الفرنسية: 2020
(Lenni Brenner, Le sionisme à l’âge des dictateurs, traduction française : 2020 par l’équipe du Saker francophone. 1983.)