لا شكّ بأنّ رحيل المخرج السوري حاتم علي شكّل علامةً فارقةً في خاتمة العام 2020. إلى جانب الفراغ الفنّي والإبداعي الذي سيخلّفه غياب علي، كان لأعمال الراحل الدور الأكبر في إذكاء الذاكرة الجماعية لأجيال ترعرعت على وقع تجارب خالدة لعلي من “ربيع قرطبة” و”الفصول الأربعة” و”أحلام كبيرة” وصولاً إلى “عمر” وغيرهم من المسلسلات التي ساهمت في تكوين وعي وشخصية هذه الأجيال. ولعلّ أبرز أشكال الرثاء الجماعي لحاتم علي جاءت فلسطينياً، حيث ضجّت الصفحات الشخصية والإعلامية والفنيّة الفلسطينية في ذِكر الفقيد واستذكار مقاطع من أحد أبرز أعماله الفنيّة الخالدة الى يومنا هذا: “التغريبة الفلسطينية”.
ومما لا شكّ فيه أنّ شخصية علي وإنتاجاته الفنيّة كانت الدافع الأبرز للحزن العربي على رحيله. لكن للحزن الفلسطيني على وجه الخصوص أبعادٌ أخرى يُمكن اختصارها بالجملة الختامية للمشهد الافتتاحي في “التغريبة الفلسطينية”: من يحمل عبء الذاكرة؟
صاغت تجربة “التغريبة الفلسطينية” الإطار الأكثر شمولاً لتوثيق القضيّة الفلسطينية. ويُقصد بالشمول هنا امتزاج السرد مع التوثيق العلمي والتحليل الاجتماعي ضمن رؤية سياسية واضحة تجعل من أحداث المسلسل وحواراته مواد تثقيفية جاهزة. ولعلّ أبرز أوجه الإبداع في العمل كان الإضاءة على حيوية التجربة الفلسطينية، بعكس أغلب تجارب التوثيق الأخرى التي تعالج التاريخ الفلسطيني بأسلوب “التبويب” ومراحل منفصلة. فقد نجح المسلسل في توثيق النكبة كحدثٍ مستمرّ ضمن المشروع الاستعماري القائم في بلادنا العربية، وأضاء على الأسباب الاجتماعية والسياسية الفلسطينية والعربية التي ساهمت وما تزال تُساهم في تفوّق العدوّ في المعركة. بالإضافة إلى ذلك، نجح المسلسل في دمج التفاعلات الفرديّة لشخصيّات تمثّل فئات اجتماعية مختلفة ضمن التجربة الجماعية لشعبٍ مستعمَر ما زال يعاني أقسى أشكال الحرب الإلغائية. كلُّ ذلك ظهر لنا بأبهى صورة من خلال إتقان المُخرج لعمليّة إظهار سيناريو ثريّ كهذا بصورةٍ بسيطة تجمع ما بين الترميز والوضوح، وقد ساهم في ذلك إبداع الممثلين ومن انتقى لهم أدوارهم.
لكي لا نجترّ الحديث عن إبداع حاتم علي وفريق عمل “التغريبة”، لا يسعنا سوى أن نرى الفراغ الذي يتولّد في العقل أمام سؤال الذاكرة. فمن حقّاً يحمل عبء الذاكرة؟ لا شكّ بأنّ العديد من المبادرات تُحاول توثيق التجربة الفلسطينية، منها ما هو مؤسّساتي ومنها ما يأتي بشكل جهودٍ فرديّة. لكن لا ريب أنّ ثمّة شللاً يحكم عمليّة توثيق التجربة الفلسطينية ونسج الرواية الفلسطينية القادرة على تحفيز شعبٍ يخوض حرباً وجودية على الانتقال من خانة ردّ الفعل الى الفعل. وأسباب هذا الشلل عديدة، منها السياسي واللوجستي والفكريّ.
سياسيّاً، يشكّل احتكار القيادات السياسية التقليدية للمؤسسات الفلسطينية العائق الأبرز أمام أي محاولة للنهوض بمشروعٍ تأريخيّ فلسطيني شاملٍ. كيف لا؟ وهذه القيادات ومن يواليها يحملون روايةً مختلفة عن السياق التاريخي للمشروع الصهيوني ومعاناة الشعب العربي الفلسطيني على إثره. فكيف يمكن لمن “يعتذر” للعدوّ على مقاومتهِ أن يُساهم في تشكيل ذاكرة شعبه؟ وكيف يُمكن لمن اشتبكت مصالحه ومنافعه ضمن الخطة الاستعمارية أن يحتوي مشروعاً وطنيّاً يهدف إلى القضاء على هذا الاستعمار وتوابعه، فنيًا؟ في الواقع، إنّ البحث عن إنتاجٍ معرفيّ فلسطيني ضمن أروقة المعترفين بشروط الاستعمار في بلادنا هو ضربٌ من الوهم. ومن جهة أخرى، لا تزال الفئات المُعارضة لهذا النهج غير قادرة على استجماع قواها لتنفيذ مثل هذه المشاريع، وذلك إمّا تقاعساً من البعض، أو انشغالًا في معارك آنيّة أو نتيجةً للقمع المتعدّد السيوف.
من الناحية اللوجسيتة، يُعدّ غياب الإمكانيات العائق الأبرز أمام توثيق التجربة الفلسطينية ضمن إنتاجٍ معرفيٍّ مُتكامل. فالحصار الإعلامي الذي تفرضه أدوات الاستعمار في بلادنا يضيّق المساحة التي يستطيع من خلالها المحتوى الفلسطيني المُقاوِم الخروج إلى العلن. إذ لا نتوقّع من “روتانا” أو “أم بي سي” الترويج لإنتاجٍ معرفيّ فلسطيني، لأنّه ببساطة مناقض لأجندة التمويل.
تعمّق هذا الحصار بعد حرب العراق وأحداث سوريا والخرق الإعلاميّ الضخم السائد في لبنان، بعد سنوات شهدنا من خلالها إنتاج مسلسلات كالتغريبة و”عيّاش” و”الاجتياح” وغيرها من الأعمال التوثيقية. أما بالنسبة لوسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية، فيبقى الصراع قائماً لاقتلاع بعض المساحات ضمن حصارٍ شاملٍ على المحتوى الفلسطيني والعربي المناهض للاستعمار. كما لا يمكننا تجاهل العائق اللوجستي المتمثّل بكوننا ضمن أروقة الحرب وتحت تأثيرها، مما يجعل من الصعوبة توثيق ما نحياه “اليوم” نظراً لغياب رفاهيّة الأمان والتخطيط، وهو ما يتفوّق فيه العدوّ وأعوانه والمنبطحين في صفوفه.
لكنّ العوائق السياسية واللوجستية ليست جديدة، أما المُقلق فهو العائق الفكري الآخذ في التصاعد على المستوى الأدبي والفنيّ في فلسطين. فمن جهة، يمكن لأيّ متابعٍ للمنصّات الإعلامية والتواصليّة أن يلحظ العدد الهائل من الفنّانين والكتّاب الفلسطينيين، وتحديداً من فئة الشباب، ومن مختلف أماكن التواجد الفلسطيني. وقد يبدو ذلك أمراً مشجّعاً، خاصةً وأنّ شروط خوض الحرب الاستعمارية أوّلها تثبيت روايةٍ منافية لرواية المسيطرين على التاريخ. لكنّ بحثاً بسيطاً في “الإنتاج” الأدبي الفلسطيني، من ناحية النصوص والأعمال الفنية، يكشف خللاً كبيراً في العقلية السائدة ضمن جيل “المثقّفين” الفلسطينيين الجدد. إذ تقوم غالبيّة هذه الإنتاجات على تكرار التجارب الفردانية التي باتت أشبه بكتب التنمية الذاتية، إذ تتحوّل فلسطين إلى مجرّد “لافتة” يحملها الشخص ليعبّر عن تجربة فرديّة “ضيّقة” غالباً ما تكون محاولة اجترار لتجارب أدبيّة أوروبية مختلفة السياق والظروف. وهو ما يشي بتشوّه يحكم الفكر العربي الذي يجد نفسه متمركزاً في عالم “كافكا” و”نيتشه” ويقوم بإسقاط هذا العالم على تجربة شعبٍ يخوض حرباً إلغائيّة. بالمقابل، يهرب هؤلاء من خوض الحاجة الى إنتاج الثقافة العربية بأدواتها العربية، فيلجأون إلى “المقبول” وإلى أسهل دروب الوصول إلى “الجمهور”: التجربة الفردانية.
بالمقابل، تمُر أحداثٌ مفصليّةٌ في تاريخنا دون أن يتمّ توثيقها بما يخدم تراكم الوعي الفلسطيني المناهض للاستعمار عبر الأجيال. فالسؤال الذي نخشى الخوض فيه اليوم: أيّ إنتاجٍ معرفيّ سنورث الأجيال القادمة؟ أيّ نصوصٍ وأعمال فنيّة سيقرأوها ويشاهدها أبناء هذا الجيل عن حروب غزّة وفدائيي الضفة والقدس ومواجهات الداخل وتحدّيات الشتات؟
لا نقص لدينا في عتاد الإنتاج الأدبي والفنّي الفلسطيني. ما ينقصنا حقّاً هو الشخصية المجتمعية التي تدفعنا نحو الخلاص الجماعي.