إحدى الإشكالات التي يوردها وائل حلاّق حول مشروع إدوراد سعيد في نقد الاستشراق أنه لم يهتم بدراسة الاستشراق القانوني، ولهذا السبب فاته، أنه ما دام هناك تداخل بين الاستعمار والاستشراق، “فإن “القانون” هو المشروع المركزي الاستعماري، والوسيلة التي استعمرت السلطة وشكلت الرعايا، …فالقانون هو التابع والخادم للسلطة السياسية الاستعمارية…، وهذا تحديدا (أي مركزية القانون في المشروع الاستعماري) هو سبب تأخر دراسة ما يسمى “بالشريعة الإسلامية” أكاديميا وفكريا”.[1]
في هذا المقال نستعرض بعض إشكاليات الفكر القانوني الحديث في التعاطي مع الشريعة الإسلاميّة. والفكر القانوني الحديث باعتباره نمطًا سائدًا منذ أن هيمنت الحداثة، يودي بنا في فخّ الاستشراق؛ إذا ما أردنا أن نفكّر في أنماط “قانونية” مختلفة عنه، انطلاقا من أرضيّة الحداثة. لهذه الغاية، اعتمادًا على مشروع وائل حلاّق في دراسة الشريعة ونقد الحداثة، سنتناول بشكل ميسّر موضوع اختراق الدولة في سياقنا، ومن ثمّ سنوضّح هيمنة الفكر القانوني الحديث بالتّطرّق إلى مثال التعليم القانوني، كتمهيدٍ لا بُدَّ منه إذا ما أردنا الحديث عن الشريعة.
ساد القانون حين كانت الدولة
يُعنى الاستشراق القانونيّ هنا بالدّراسات الاستشراقيّة للنظم التشريعيّة والقانونيّة لغير الأوروبيين، وما نقصده هنا هو دراسة أنماط التنظيم الاجتماعي السابقة لهيمنة الدولة الحديثة، وهذا لا يعني بالضرورة عدم وجود دراسات استشراقية عن الشرق وتنظيمه بعد نشوء الدول فيه. ويمكننا تحديد الاستشراق بوصفه دراسة الشرق من المنطلقات المعرفية الحداثيّة، دراسة تزعم “الحياد” و”الموضوعيّة”، وهذه المزاعم غير منفصلة بطبيعة الحال عن المشروع الاستعماري الحديث. أمّا الحداثة فنتناولها هنا في سياق وصفها مشروعًا أوروبيّ التاريخ بالقدر نفسه الذي فرض فيه معانيه وأشياء أخرى على العالم، كحقيقة كونيّة وأبديّة، اعتمادًا على فلسفة الأنوار (عصر التنوير) بالرغم من التنوّع الكبير فيما بينها.[2]
إنّ القانون الحديث والدولة الحديثة/القوميّة عاملان أساسيان من عوامل مشروع الحداثة. فبعد نشوء الدولة الحديثة في أوروبا، امتدت هذه الدّولة باعتبارها تنظيمًا اجتماعيًّا جديدًا يُشكّل في هيمنته قطيعةً مع ما قبله. لقد امتدّت الدّولة الحديثة إلى الشرق كما العالم، وقد جاء هذا التحوّل إلى الدولة الحديثة في منطقتنا بتدخُّل الماكينة الاستعماريّة الأوروبيّة. واستكملت النخبة القوميّة المحليّة ما بعد الاستعماريّة مشروع بناء الدّولة الحداثيّة، وخلال ذلك كلّه كان يتسلّل إلينا قرين الدولة المُسمّى بالقانون، حتّى أصبح أمرًا واقعًا، مجذّرًِا الدولةَ ومتجذّرًا بها. يظنُّ البعض اليوم أن الدولة ظاهرة تصلح لكلّ زمان،[3] وتكون سيادة القانون فيها قيمة عليا ينادي بها المجتمع، ساعيًا وراء الدولة المنشودة، التي باتت مفترضة، ومعها بات القانون مفترضًا كذلك. فلا وجود للدولة دون القانون، الّذي هو قانون الدولة بالضرورة.
جاءت هيمنة الدولة في منطقتنا -وهي أكثر مؤسسات الحداثة أهمية- نتيجة للمنافسة والمواجهة التي حصلت بينها وبين الشريعة؛ فقد انتهت هذه المواجهة التي مرّت بمراحل عديدة، بانتصار الدولة في السيطرة على التشريع و”إنهاء البنى المؤسسية للشريعة وتفكيكها نهائيًا، وانبثاق تصوّر جديد للشريعة”، فالمواجهة هذه أدّت لتحوّلٍ بنيويٍّ عميقٍ، كذلك الأمر لتحوّلٍ في النظام المعرفيّ، بهيمنة نظام معرفيّ جديد، “ وأضحى موضوع الشريعة لا يزيد عن كونه قانونًا وضعيًا مصدره إرادة القوّة لدى الدولة”،[4] فما يعرف بـ”تقنين الشريعة” مثلا، ما هو إلا قولبة نصوص وأحكام شرعيّة معيّنة في قالب القانون الوضعيّ الحديث، وبعد ذلك يكون المُنتج نصًّا قانونيًّا يعمل داخل منظومة القانون والدولة، ويستمد شرعيّته وإلزاميّته منها، فنكون أمام “شريعة” مُخرجة من سياقها بطبيعة الحال، بل وربما يمكن القول إنها ليست هي هي؛ أي ما عادت ذاتها وصُيّرت غيرها.
كيف ندرس القانون؟
إنَّ ما نتعلّمه عن القانون في كلّيّات القانون الفلسطينيّة على سبيل المثال – وهو نمطٌ سائدٌ في كثير من دول العالم-، هو التطبيق، وقدر ضئيل من نظريّة القانون حتّى نتمكّن من التعامل مع القوانين المحليّة؛ بمعنى أنّنا في معظم سنوات الدراسة الجامعيّة ندرس النصوص القانونيّة النافذة والمطبّقة في المحاكم الفلسطينيّة، وأحيانًا يتمُّ تدريس الأحكام القضائيّة المتعلّقة بالنصوص القانونيّة. تجدر الإشارة إلى أنّ التطبيق هنا يختلف عن ما يتحدّث عنه معظم أساتذة القانون محليًّا؛ ذلك أنَّ التوجُّه السائد في تعليم القانون في الجامعات الفلسطينيّة هو توجُّه نظريّ، بعيد عن التعليم العمليّ أو التطبيقيّ، وهذا صحيح، لكن يصبح المقصود بالتّطبيق، كما عرّفته آنفا، ذلك التّطبيق النظريّ البعيد عن واقع ممارسة المهن القانونية. ويحاجج مَن يستنكر هذه الطريقة غالبًا، بدعوى تحقيق مزيد من المَهنَنَة في تعليم القانون؛ أي أن يصبح ما نتعلّمه هو التطبيق بصورة عمليّة وليست نظريّة كما هو الآن، كأن يكون تعليمًا ميدانيًّا يحتكّ مع المهنة مثلا؛ وذلك من أجل “تهيئة الطلبة لسوق العمل”.[5]
إن دراسة القانون بهذه الطريقة؛ أي دراسة ما هو مطبّق من القوانين، تشير إلى هيمنة الفكر القانوني الحديث وما يحمله من مسلّمات؛ فقد بات هذا القانون مفترضًا كما ذكرنا، يقبع في الخلفية، دون إشارة إليه، ودون مساءلة؛ لأن جلّ همّ دارس القانون المطبّق هو النَصّ نفسه، أو النَصّ وإشكاليّات الممارسة القانونيّة في الواقع، ومع أهميّة هذه الأخيرة – وقلّة التطرّق إليها في التعليم- إلّا أنّها لا تتجاوز سقف أسس القانون الحديث؛ لأنها في نهاية المطاف تنطلق من مركزيّة قانون الدولة.
يشير وائل حلاّق في إحدى المقابلات في سياق دعوته لدراسة القانون الحديث من زاوية نظريّة، ودراسة الفلسفة بالعموم قبل دراسة الشريعة الإسلاميّة، إلى أنّه “كلّما أصبحت دراسة القانون أكثر نظريّة مالت إلى النقد، الذي هو نقد الذات ونقد الآخر”، وبينما تكون دراستنا للقانون أكثر تقنية ومنطلقة ممّا هو مطبّق من نصوص، فإننا لن نكتفي بتفويت فرصة النقد والنقد الذاتي فحسب، بل غالبًا سنعتبر أن أي طرح نقدي هو خارج سياق “علم القانون” أساسًا، وهذا ما نواجهه كثيرًا كطلبة في كلّيّات الحقوق على سبيل المثال.
قانون إسلاميّ أم شريعة إسلاميّة؟
في محاضرة جوزيف مسعد حول كتابه “الإسلام في اللّيبراليّة” يشير في سياق حديثه في مطارح عديدة إلى إشكاليّة مهمّة متعلّقة بترجمة مفاهيم الإسلام ومصطلحاته؛ إذ يُترجَم مفهوم ما إلى لفظة معيّنة مثلًا، فيصبح المفهوم محمّلًا بالحمولة التي تحملها اللفظة في اللغة التي تُرجمت إليها. وأحد الأمثلة الأساسيّة لإشكاليّات الترجمة لمفاهيم الإسلام، هو ترجمة مصطلح الشريعة الإسلاميّة إلى اللّغة الإنجليزيّة، الّذي يُترجَم عادة على أنّه (Islamic Law)، فيتمُّ التعامل مع “القانون الإسلاميّ” باعتباره مرادفًا لما يُسمّى الشريعة الإسلاميّة.
إن استخدام مصطلح “القانون الإسلاميّ” كمرادف لـ”الشريعة الإسلاميّة” هو أمر إشكاليّ، ويعني “أن نُسقط – إن لم نكن نقحم – على ثقافة الإسلام التشريعيّة، مفاهيم مشبّعة بالخصوصيّة لقانون الدولة القوميّة الحديثة”،[6] بكلمات أخرى؛ عندما نستخدم “القانون” لوصف “الشريعة” نكون قد حمّلنا الشريعة دلالات كبيرة عديدة ليست منها، ونكون قد حكمنا عليها مسبقًا، لأنَّ الناظر إليها يكون منطلقًا من القانون لرؤية ما تعنيه الشريعة.
أحد المواضيع التي يتم تدريسها في السنة الأولى من دراسة القانون، وغالبًا ما نمرّ عنه مرورًا سريعًا رغم ما يحمله من أهميّة وتعقيد، إلّا أنّنا نتجاوز النقاش الدائر حوله كي نستطيع الولوج إلى ما هو سارٍ من تشريعات وقوانين، هو موضوع تمييز القانون أو القواعد القانونيّة، بل وفصلها عن غيرها من العلوم والقواعد المعياريّة الأخرى؛ فنميّز بين قواعد القانون وقواعد المجاملات، ونميّز أيضا بين علم القانون وعلم السياسة مثلًا، والفصل الأهمّ الذي نجريه، والذي يحيل إلى نشأة ما هو “قانوني”، ألا وهو الفصل بين القانون والأخلاق.[7]
هذا الفصل بين ما هو قانونيّ وبين ما هو أخلاقيّ، هو أحد المقولات الأساسيّة في القانون الحديث، الّتي تغدو من المسلّمات حين نشتغل أو نفكّر بالقانون، فحين جاء الاستشراق كي يدرس الشريعة الإسلاميّة، وجدها لم “تضاهي أي نسخة من القانون الأوروبي”، فحكم عليها بالفشل وعدم الكفاءة والفعاليّة؛ لأن الناظر إلى الشريعة بوصفها “القانون الإسلامي” المنطلق من افتراضات القانون الحديث، تلك الافتراضات التي تتطلّب من أيّ قانون أن يُخرج نفسه من دائرة الأخلاق، سيجد أنّ الشريعة لم تحقّق هذا الفصل، ولم تتعامل مع القانونيّ والأخلاقيّ كشيئين منفصلين، بل كشيء واحد، ومن ثمّ سينظر لعدم تحقُّق هذا الفصل نظرة الإدانة والنبذ، في حين أنه ليس فقط يمكن اعتبار عدم الفصل بين الأخلاقي والقانوني في الشريعة امتيازا إيجابيا لها، بل يمكن عكس تلك النظرة الدونية تجاه الفصل بينهما.[8]
إنّ افتراض القانون الحديث بفصل الأخلاقي عن القانوني، هو كأشياء أخرى كثيرة في الحداثة جعلت حقيقة كونية وأبدية، والشاهد هو أنّها تأتي مفترضة، فتُنتج أحكامها بمجرّد طرح السؤال؛ أي أنّها تحمل الإجابة في السؤال نفسه، كالسؤال عن طبيعة “القانون الإسلامي” مثلا، فيقع الإشكال بشكل جليّ حين يكون السؤال عن أشياء هي بالأساس خارج نظام الحداثة المعرفي. لذلك كلّه، وترديداً لدعوة حلاّق، ينبغي علينا قبل دراسة الشريعة الحذر في تعاملنا مع اللّغة، كما يجب دراسة القانون دراسة نقديّة بفهم أصوله النظريّة، والتّعمّق في الحداثة ونظامها المعرفي المهيمن؛ فنحن المشرقيّون على الأقل، مدينون لأنفسنا بذلك.
هوامش:
[1]مقابلة وائل حلاق على مدونة الشريعة الإسلامية المترجمة على منصة إدراك، رابط المقابلة.
[2]أنظري: وائل حلاق. قصور الاستشراق: منهج في نقد العلم الحداثي، ترجمة: عمرو عثمان. بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2019.
[3]وائل حلاق. الدولة المستحيلة: الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي، ترجمة: عمرو عثمان. بيروت المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2014.، ص 20.
[4]وائل حلاق. الشريعة النظرية الممارسة والتحولات، ترجمة: كيان أحمد حازم يحيى، بيروت: دار المدار الإسلامي، 2019، الجزء الثالث من الكتاب 943.
[5]أنظري إلى:
Mutaz Qafisheh, A century of the law profession in Palestine: quo vadis?, International Journal of the Legal Profession,2018 VOL. 25, NO. 2, 175–212
[6]وائل حلاق. ما هي الشريعة، ترجمة: طاهرة عامر وطارق عثمان، بيروت: مركز نماء للبحوث والدراسات، 2016.
[7]أنظري: عباس الصراف، جورج حزبون. المدخل إلى علم القانون: نظرية القانون- نظرية الحق، عمان: دار الثقافة للنشر والتوزيع، 2016.
[8]وائل حلاق. ما هي الشريعة، ترجمة: طاهرة عامر وطارق عثمان، بيروت: مركز نماء للبحوث والدراسات، 2016.